آخر خبرافتتاحية

        لقاء العروبة في تونس…بين الأمل والواقع

   سامي كليب:

ما أن ذُكر اسم فلسطين في مؤتمر “حركة الشعب” الذي انعقد في تونس أمس، حتى التهبت القاعة بتصفيق مئات الحاضرين، فهبّوا عن كراسيهم واقفين يهتفون ” فلسطين عربية”. انتعشت قلوبٌ وأدمعت عيون وارتفعت أعلامُ فلسطين وتونس جنبا الى جنب، ثم صدحت هُـتافاتٌ كثيرة أخرى مناصرة لمقاومي المشاريع الصهيونية والأجنبية، ودعما لسورية والعراق ولبنان واليمن وليبيا، وصدح كثيرون بإسمي الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين والعقيد الليبي معمّر القذافي.

وأما المسرح الذي كانت تنشد على يمينه فرقة ” الكرامة” أغاني عربية مُلتزمة، فقد تصدّر العلمُ الفلسطيني منبرَ خُطبائه، وفي طليعتهم أمين عام الحركة ذات الانتماء الناصري العروبي زهير المغزّاوي، وأمين عام حزب جبهة التحرير الجزائري أبو الفضل بعجي، والقيادي الناصري المصري حمدين صباحي، وعصام صبح أحد مؤسسي حزب الطليعة الأردني وغيرهم من الذين تناوبوا على طرح أفكار وحدوية عربية لمناسبة المؤتمر الثاني ل ” حركة الشعب”.

هي أجواء عروبية صادقة تريد اضاءة شمعة أمل في الليل العربي، وتذكّرنا بما كان عليه الحال في بيروت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ذلك ان الهتافات والتصفيق ومظاهر البهجة والتأييد، لم تقتصر على فلسطين ودول عربية، وانما ضجّت القاعة مرارا بالتصفيق والهتافات كُلما ذُكرت كوبا وفنزويلا وروسيا وصولا الى إيران التي أوفدت سفيرها في تونس لحضور اللقاء الجماهيري.

حبٌ التوانسة لفلسطين ليس غريبا، فهي تسري مع الدماء في عروقهم، تماما كمعظم القضايا العربية المُحقّة، و ” حركة الشعب” الحيوية في مجتمعها تلقى أصداء إيجابية لخطابها العروبي الصادق في زمن التصحّر العربي. ولذلك فهي نجحت في الانتقال من نائبين فقط في البرلمان الى  16 نائبا حاليا، وتطمح لأن تصل الى السُلطة، معتبرة أن نجمها يصعد، مقابل خفوتٍ لافت للتيار الإسلامي  في تونس ممثلا بحركة النهضة.

 

ثم إن الحاضر أنصف كثيرا من المواقف التي اتخذتها الحركة منذ انطلاق ما عُرف ب ” الربيع العربي”، فهي وبعد أن كانت توصف خصوصا من قبل الإسلاميين بانها حركة ” البراميل المتفجّرة” بسبب دعمها لسورية منذ اندلاع حربها، نجحت في اقناع قسم لا بأس به من التوانسة، بأنها كانت في ما تقول، حريصة على أهل تونس، ذلك ان ذهاب أكثر من 6 آلاف إسلامي متشدد أو متطرف أو إرهابي للقتال في سورية، هو ما يغذي التيارات الإرهابية في تونس التي قتلت عددا كبيرا من الناس الأبرياء أو من  قادة النضال القومي او اليساري أو العروبي.

أهل تونس، لا يشذّون عن القاعدة الصلبة في منطقة المغرب كلّها، بحيث أن لفلسطين مكان الحب والصدارة في القلوب. وقد وصل الأمر برئيسهم قيس سعيد الى حد تخوين كل من يُطبّع مع العدو الصهيوني، والتهديد بسجن من يروّج للتطبيع، قالها فيما كانت عواصف ” صفقة القرن” التي قادها دونالد ترامب ونجله ومن خلفهم أسرائيل والانجيليون الجدد تهزّ قلاعا وعروشا في المنطقة.

كل هذا ممتاز، لكن هل الأمل الكبير يوافق الواقع التونسي والعربي؟

تعيشُ تونس هذه الأيام أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، وتمر وسط أمواج متلاطمة من المآزق السياسة، فالرئيس الذي لاقى أصداء واسعة بين الشعوب العربية حين جاهر كما رئيس الجزائر عبد المجيد تبون بمناهضة التطبيع، يستمر في اجراءاته الدستورية والاستفتائية التي يتهمه فيها خصومه بمحاولة السيطرة على كل مفاتيح السُلطة والاستفراد به على طريقة العقيد القذافي ، ويرفض الحوار مع الأحزاب، ويقول المعارضون انه كل يوم تتوسع دائرة معارضي سعيد، وذلك رغم محاولات حركة الشعب التوسط والنصح بالعودة الى لغة الحوار. أما هو فيؤكد انه يسير في الطريق الصحيح وأن المستقبل سيعطيه الحق. والواقع ان ثمة اجماعا وحيدا حول شخصه ويتعلق بموقف الصادق من فلسطين والعروبة حتى أنه حين ذهب الى مصر تعمّد ان يشرح للضباط والجنود المصريين كل تفصيل حفظه عن ظهر قلب عن الحرب العربية الاسرائيلية والوحدة. لكن هل هذا يكفي لادارة البلاد؟  

اذا كان فقراء تونس الذين فاقوا الأربعة ملايين نسمة وبينهم مليون تحت عتبة الفقر، يؤيدون سعي الرئيس لمحاربة الجشع والاحتكارات، فإن الأفق السياسي في البلاد يبدو مسدودا، والكوارث الاقتصادية تُطل برأسها البشع، بحيث تتراوح أرقام البطالة بين 18% وفق التقديرات الرسمية و23 % وفق خبراء أكثر تشاؤما، وذلك فيما صندوق النقد الدولي ينتظر عند مفترق الطرق لمضاعفة مستوى الضغط بغية رفع الدعم عن بعض المواد الأساسية وتقليص عدد موظفي القطاع العام والترشيد المالي، وسط تحذيرات المؤسسات الدولية المالية من أن تونس قد تُصبح في فترة قريبة عاجزة عن تسديد ديونها.

من يستمع الى خطاب أمين عام “حركة الشعب” أمس، وهو يتحدث عن مآسي تونس في هذه المجالات الاقتصادية، يشعر وكأن الرجل يتحدث عن مآسي لبنان او سورية او العراق، وكأنما هموم الاقتصاد واحدة في معظم الأقطار العربية. ولذلك ذهب المغزاوي (الذي يُعتبر مع حركته الأقرب بين كل الأحزاب الى رئيس البلاد)، ذهب الى حد التحذير ومخاطبة الرئيس قائلا:” أنت أمام فرصة للاستمرار في حركة 25 يوليو ( تموز) التصحيحية، أو أن التاريخ سيلعنك”. كان المغزاوي، ومن منطلق الحريص على الرئيس والبلاد، ينصح بالتمسك بمبادئ التصحيح التي أقرت بعد اقصاء الحركة الإسلامية، كي لا تغرق البلاد في أتون الكوارث التي لن تُحمد عُقباها. وما لم يقبل الرئيس سعيد هذه النصائح من المُحبّين، فلا شك أن رئاسته وكثيرا من استقرار تونس سيكونان في مهبّ الريح، وتحت مجهر الذين يريدون الانتقام منه بسبب اقصائه للإسلاميين أو بسبب مواقفه الصلبة والعروبية ضد إسرائيل والتطبيع.

ثمة أملٌ كبير أوحت به جماهير حركة الشعب وضيوفها من الأحزاب القومية العربية والناصرية بهذا المشهد الذي ما عُدنا نرى الكثير منه في الوطن العربي، وثمة عنفوان كبير حمله أمين عام جبهة التحرير الجزائرية أبو الفضل بعجي وهو يتحدث عن النهضة الجديدة في بلاد الثورة المجيدة، وعن المشاريع المقبلة في الجزائر، وعن استبدال التاريخ الاستعماري لفرنسا وما بقي منه، بفتح علاقات واسعة وواعدة سياسية واقتصادية مع دول أخرى من الصين الى كندا وروسيا، وبتعزيز المناخات والمبادرات العروبية في المرحلة المُقبلة.

هي القلوب الصادقة بعروبتها والملتزمة بخياراتٍ قومية عروبية اجتمعت في تونس على مدى ثلاثة أيام. وهي التزامات عروبية تبدو ضرورية اليوم وأكثر من أي وقت مضى لاستنهاض مشروع عروبي حقيقي مستند الى القضايا العربية المُحقّة وفي طليعتها فلسطين، لكن الجروح في الجسد العربي كبيرة، وتحتاج الى مشاريع تنموية وعلمية وفكرية وإعلامية وتنويرية واقتصادية واجتماعية، تُقنع الأجيال الجديدة بأن لا خيار للعرب الا بالعودة الى بعضهم البعض والتعاون والتكامل وسط غابات المشاريع الإقليمية والدولية واستمرار إسرائيل في توسعها ورسم العالم خرائط جديدة.

يبدو من خلال ما حققته حركة الشعب في مجتمعها في السنوات القليلة الماضية، وما استعادته جبهة التحرير بعد عملية النقد الذاتي والتطهير الداخلي والتمدد مجددا صوب كل أرجاء الوطن بقيادة أمينها العام الجديد الحيوي الذي ساهم وجوده على رأسها في تصدّرها الانتخابات الماضية وعودتها الى مناطق القبائل التي سعى البعض في الداخل والخارج لزعزعتها وضرب الوحدة الجزائرية ( من خلال اللعب على التناقض المقصود  والخبيث بين عرب وأمازيغ)،  يبدو من كل ذلك، أن الأجيال العربية الجديدة تحتاج في الواقع، الى عملية نقد ذاتية كبيرة من قبل الأحزاب والقيادات التي صدئت بشعاراتها السابقة، والى تقديم مشروع جديد يخاطب أجيال اليوم بلغتهم ويحافظ على ثوابت أمة قد تضيع وسط تلاطم الأمواج الإقليمية والدولية من حولها. وهذا بالضبط ما جعل قيادات مثل المغزّاوي أو بعجي ينجحان في مجتمعيهما وبين ناسهما.

لا بد من ثلاثية واضحة للمستقبل، تقوم على : الحرية ولقمة العيش الكريمة والعدالة الاجتماعية. غير ذلك سيبقى مجرّد شعارات كتلك التي شنّفت آذان أجيال كثيرة، وقادت الى هزائم أكبر.

كان مؤتمر حركة الشعب، واعدا بالكثير، ويكفيه جميلاً أنه أحيا أملا في زمن قاتم.   

  

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button