سامي كليب
قبل أشهر قليلة جاءتني دعوة من مركزٍ بحثي في العراق، فسارعتُ للترحيب لسببين أولهما أن آخر مرة زرتُ فيها العراق كانت لتغطية الحرب الأميركية العراقية عليه، والثانية لأن لكل أنسانٍ في هذا العالم وطنين، بلده والعراق، ذلك أن في تلك البلاد العريقة وُلدت الحضارات الإنسانية الأولى والقوانين الأولى والفنون الأولى والثقافات الأولى والمخطوطات الأولى ، فكيف إذا كان الزائر عربياً. لا بد أن بعض جذوره هناك.
على معهود الدعوات المُماثلة، فقد كان من المُفترض أن أشارك في جلسات نقاشية في المؤتمر الذي ضم عشرات المُفكّرين والمثقفين والإعلاميين القادمين من دول عديدة، لكني فوجئت في اللحظات الأخيرة التي سبقت الافتتاح، بطلب من إدارة المركز، بأن أحاور رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي مُباشرة أمام جمهور واسع من السياسيين ورجال الدين والأحزاب الذين تصدّروا المقاعد الأولى، وخلفهم كل المفكّرين والمثقفين والإعلاميين والناس العاديين، وكان في مقدم الحضور رئيس البلاد برهم صالح.
عَجِبتُ في الواقع لهذا الاقتراح، ولم افهم اذا كان نابعا من رغبة بان يكون الحوار مع اعلامي عربي وليس عراقيا أو أن الفوضى قادت الى ذلك، لكنّي تقبّلتُ الفكرة رغبة مني في عدم تخييب أمل من وثق بي لهذه المُهمة من إدارة المركز البحثي، ولأني وجدتُ فيها إطلالة جيدة على العراق من بوابة واسعة تجمع الثقافة والفكر والسياسة والاعلام في مكان واحد، خصوصا ان النظرة الأولى للمؤتمر توحي بأن ثمة تكاليف مالية عالية دُفعت عليه، ولا بُدّ أن خلف ذلك أسباباً.
كنت قد قرأت عن الحلبوسي الذي ما زال في ربيع العمر (مواليد 4 كانون الثاني 1981) أشياء كثيرة، بعضُها يلامس الشفافية، وكثيرُها ينطلق من اعتبارات قائلها في بلد عرف شروخا كثيرة طائفية ومذهبية، وسياسية وعرقية واجتماعية ( البعض يقول إنه أعاد ترسيخ أقدام السُنّة في البلاد، والبعض الآخر يتحدث عن ثروته) وكنتُ كذلك قد شاهدتُ بعض مقابلاته، ولفتني فيها انفعاله حين لا يرضى عن سؤال، وحيويته الشبابية، وسرعة بديهته، كما لفتتني صراحتُه في التعبير عن مواقفه التي غالبا ما يغلّفها بعمقها العربي في تناقض واضح مع البُعد الإيراني لقوى عراقية أخرى.
الحلبوسي ليس طارئا على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فهو مهندس وعضو في نقابة مهندسي بلاده، وحاصل على دبلوم باللغة الإنكليزية، وعضو اتحاد رجال الاعمال العراقيين، ورجل أعمال ناجح جدا، وعضو لجان كثيرة في برلمانات سابقة من حقوق الانسان الى المالية، وهو حقق نجاحات كثيرة في منطقة الانبار التي تولّى فيها منصب المحافظ قبل أن يصبح رئيسا لمجلس النواب في المرة الأولى عام 2018، وعلاقاته الخليجية أكثر من ممتازة، ودائم المناكفة مع التيارات العسكرية والسياسية القريبة من إيران.
اعتلينا المنصّة، الحلبوسي وأنا، وجلسنا على مقعدين وثيرين، كان أنيق المظهر، مصفف الشعر على عادته مُبتسما. كان على يسارنا شاشة كبيرة تعكس صورتنا بشكل أكبر كي يراها كل الناس، وعلى يميننا القاعة التي يتصدّرها الرئيس برهم صالح ومعظم القوى السياسية في البلاد ذات الانتماءات المتناقضة وخلفهم أنماط مختلفة من الناس.
قلتُ بشيء من العمد والممازحة في مستهل الحوار:” أنا سعيد بأن أحاوركم، وأن أكون في العراق للمرة الأولى بعد الحرب، وأن تتزامن زيارتي مع قمة بغداد الناجحة رغم أسفي لغياب لبنان، لكن لا بأس فكلّ عَلَمٍ عَرَبي يُمثلُ بلدي ( صفّق كل الحضور) وقلتُ أيضا متوجها للحلبوسي: لا أدري يا سيدي من ورّطك بهذا الحوار، لأني لستُ من النوع الذي يمدح ويجامل، فأرجو أن يتسع صدرُك لتقبّل أسئلتي”.
بدت علامةُ الريبة على وجهه، وهو ينظر الى الرئيس صالح ورئيس المركز البحثي الجالس الى جانبه، ثم رحّب بي وقال كلمات طيّبة عن لبنان، وقال على طريقة الضيافة العراقية العريقة : أنت في بلدك وبين أهلك.
سُرعان ما ذهبت أسئلتي الى مكان الازعاج، وكنت أستند في بعضها الى تصريحات سابقة له، حول أهمية أن يكون الرئيس العراقي سُنيّا لتحسين العلاقات وتعميقها مع الجوار العربي، وعن رأيه بالدورين الإيراني والخليجي في بلاده، وعن أين ذهبت أموال العراق منذ العام 2003 أي أكثر من ألف مليار دولار وكيف أن الرئيس برهم صالح يتحدث عن نهب نحو 200 مليار، وصولا الى احتمالات التطبيع مع إسرائيل، وكنت في كل مرّة أسال ماذا فعلتم في مجلس النواب؟
الواقع أني لم أشذ عن قاعدة طريقتي في طرح الأسئلة وفي احترام مهنتي، بحيث أني أطرح السؤال الأصعب والأقسى لكن في حدود احترام الضيف واحترام نفسي، ولم يكن لي أي موقف شخصي لا مع ولا ضد الضيف الجالس أمامي، وفرحت بما قاله عن أن فلسطين هي في قلب كل عراقي، وفرحتُ كذلك بحديثه عن العمق العربي للعراق وعن التطور الذي حصل في البلاد وعن وقف الإرهاب والعنف ..الخ.
لكن كلما كنتُ أطرح سؤالا صعبا أو مُحرجا، كانت القاعةُ تتفاعل سريعا، موحية بأن الناس فيها منقسمون بين مؤيد ( يستاء) ومعارض ( يصفّق)، فصارت درجةُ انفعاله ترتفع شيئا فشيئا، رغم سرعة بديهته واجاباته المقتضبة، وكأنه لم يشأ في جلسة كهذه تسبق الانتخابات النيابية أن يتم تسليط الضوء على كل ما يقال، أو ربما قيل له ( خطأً) من قبل إدارة المؤتمر إن المقابلة ستكون لصالحه، والله أعلم. وقبيل انتهاء الجلسة قال :” يبدو أنك تعمل في قناة لها أغراض معينة “، ابتسمت وشكرته على اللقاء، ولم أشأ أن أقول له أني لا اعمل منذ فترة طويلة مع أي قناة، لكن بعض الزملاء الإعلاميين قالوها في اليوم التالي على الشاشات أو مواقعهم الإعلامية.
ما كدتُ أخرج من القاعة، حتى تقاطر كثيرون يهنئوني على قوة الأسئلة وجرأتها، وكنت أستغرب ذلك وأكتفي بالإجابة بأن هذا عملي وهذه عادتي، لكني رأيتُ من البعيد وجه رئيس المنتدى متجهّماً وهو قادمٌ صوبي من فوق جسده الممتلئ أكثر من اللزوم، وقال لي إنه ما كان ينبغي علي طرح هكذا أسئلة في مؤتمر كهذا، فقلت : “كان عليك يا أخي أن تسأل عني قبل أن تقترح عليّ مقابلة بهذا الحجم، مع رجل بهذا التأثير” وافترقنا على خلاف، وربما ندم ندما شديدا أنه دعاني.
ثم صار خبرُ المقابلة على كل شَفَةٍ ولسان، وانتشر في كثير من وسائل الاعلام في اليوم التالي، راح البعض يقول إني أربكتُ الحلبوسي وأنا اجيب أنه كان جيدا في الإجابة على الاسئلة، والبعض الآخر يؤكد بأني فعلت هذا لصالح الرئيس برهم صالح أو لتعزيز حظوظ القيادي السُني خميس خنجر المنافس للحلبوسي (قبل أن يتفقا مؤخرا). لم ينفع كل قسمي بأني والله لا أعرف الرجلين ولم التق بأحد منهما، وبأني عرفت بالمقابلة قبيل حصولها بدقائق معدودات. ثم جاءني زملاء وأصدقاء محبّون يقولون:” لا تستمع الى كل ما يقال، فنحن لم نعتد منذ زمن طويل على هكذا مقابلات، والرجل حاليا في أوج معركته السياسية والانتخابية ويحسب كل كلمة يقولها او تقال عنه”. فالاعلام العراقي مع الأسف، الا ما ندر منه، منقسم تماما كمعظم الاعلام العربي بين المحاور.
اليوم عاد الحلبوسي رئيساً لمجلس النواب، أتمنى له النجاح وبأن يحقق في المجلس الحالي كل ما لم يتحقق في الذي سبق، فعراق التاريخ والحضارة والعراقة والأصالة وأهله أصحاب النخوة والأصالة والكرم، يستحقون بلدا مُستقرّا هادئا غير طائفي ولا مذهبي ولا يكون ساحة لصراعات الاخرين على أرضه ويتمتعون بثروات بلادهم الوفيرة. وقد حرصتُ على نشر هذه القصة بعد الانتخابات كي لا يقال إني تعمّدت نشرَها لصالح طرف ضد آخر. فكلّ العراق بالنسبة لي أهلٌ وأحبّة أكانوا سنّة أم شيعة أو كردا أم أي مكوّن آخر، لكن الناس في العراق تماما كما في لُبنان قد فقدوا الثقة بكل السياسيين تقريبا لانهم اغتنوا وفسدوا على حساب الشعب، وربما على المجلس الجديد أن ينطلق من هذه المعادلة إذا اراد فعلا التشريع لقيام دولة موحدة، لا دويلات في دولة.