سامي كليب
لا أدري إذا كان الناس في لُبنان ما زالوا يهتمّون فعليا بما يقوله السياسيون والاقتصاديون في دولتهم التي صارت في طور الانقراض، لكن أهمية الجدل الدائر حاليا على الجبهات السياسية والمبني على الوهم التاريخي بأن طرفاً يستطيع تدميرَ الآخر، هي أنها بدأت تُظهرُ الى السطح فضائح الصفقات المشبوهة بين الأطراف حين كانت متفقة بين بعضها أو شبه متفقة فوق جُثة الدولة وجراح الشعب وفقره.
في ظاهره، يبدو هذا الاقتتال الانتحاري الأخير بين منتحلي صفةِ السياسي النزيه، مُرتبطاً بالانتخابات القريبة المُقبلة، لكنه في مضامينه الأعمق، هو تعبيرٌ عن المعارك الأخيرة والأكثر شراسة في سياق توديع النظام السياسي البائد، والبحث عن نظام جديد لن تتحدّد معالمُه الفعلية قبل انجلاء طبيعة الاشتباك أو الصفقات على مستوى المنطقة.
يجاهدُ كلُّ طرفٍ سياسي لإعلان براءته حيال كارثة الدولة، ولدى كلٍّ من هذه الأطراف ما يكفي من الذرائع والبراهين كي يفضح الآخر، لكن هذه المحاولات اليائسة سُرعان ما تصطدم بالرد، الذي يُبادِلُ الفضيحةَ بمثلِها، دون خشيةً من حسيبٍ أو رقيب، ذلك أن الشعبَ شلَّ بنفسه قدراتِه على المُحاسبة، والقضاءَ مغلوبٌ على أمره برضاه، والدولارَ يتمتع بحرية كاملة في الصعود والهبوط كما يشاء، والأمنَ مرصودٌ للأسوأ.
لُبنان في سياقه الخارجي هو جزء من قوس الأزمات من فلسطين الى سورية، والعراق، واليمن فليبيا والسودان وتونس والجزائر. هذه الدول جميعها تعيشُ مخاضاً مُعقّداً منذ سنوات لتغيير طبيعة وتوجهات الأنظمة فيها بما في ذلك الأنظمة التي وُلدت من رحم انتفاضات أو ثورات أو اقتتال، ومعظم هذه الدول كانت تاريخيا تُوصف بالمتمرّدة أو القريبة من الاتحاد السوفياتي أو الداعمة للخيارات العسكرية ضد إسرائيل. ( أما مالياً وسياسيا فمعظم الدول العربية ساهمت في الدعم للفلسطينيين).
كانت الأمور مع إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب واضحة على قساوتها وسوئها، فمن يسير في طريق التطبيع وتغيير الاتجاه التاريخي يستقرّ، ومن يُعارض سيواجه مشاكل جمّة تبدأ بالحصار والعقوبات وتصل الى تحريك أصابع داخلية عديدة، وكان سوء الإدارات الداخلية في معظم هذه الدول، وصراع الأجنحة، مُناسبان لأي خطط خارجية.
مع إدارة بايدن ونجاح بعض الشعوب في تغيير الحاكم دون القدرة على تغيير جذري في النظام أو في توازنات القوى الداخلية، ضاعت الأمور وتعقّدت أكثر، أولاً بسبب التردد والارتباك الأميركيين خصوصا في سياق الانسحاب من أفغانستان والاعداد لانسحابات أخرى من العراق وغيره، وثانيا لأن التطبيع ما عاد شرطاً (والدليل عودة السودان الى التخبّط)، وثالثاً لأن دولا أخرى دخلت على الخطوط بقوة وفي مقدمها الصين وروسيا، ورابعا وخصوصا لأن أنظمة الحُكم في معظم هذه الدول لم تُحسن بعد إدارة المرحلة (باستثناء الجزائر رغم تصاعد حدةُ التوتر بينها والمغرب).
سيًقال إن قوس الأزمات هذا ورد مرارا في التوقعات والخطط من تل أبيب الى واشنطن، وأن كثيرا منه ذُكر في المحاضرة الشهيرة لآفي ديختر ( رئيس جهاز الشاباك ووزير الامن الإسرائيلي سابقا)، هذا صحيح، لكن الغريب فعلا، هو أن يعرف الانسان أن ثمة فخاً منصوبٌ له على بُعد أمتار، ويتجّه بكل غباء للسقوط فيه.
لنفترض أن كلّ ما يحصل هو فعلٌ خارجي، وأن ساسةَ لُبنان وبعض الدول العربية الأخرى، ملائكةٌ على رؤوسهم الطيور البيضاء، وأنهم بنزاهتهم وشفافيتهم يقاربون المدينة الفاضلة، فأين هي الحِكمة السياسيةُ الداخلية لتفادي الكوارث، وماذا خطّطت هذه الدول لترتيب شؤونها الداخلية، أيُعقل أن دولة مثل العراق وبعد 19 عاما من الاجتياح الأميركي العراقي، عاجزةٌ عن ضمان نظام سياسي موحِّد، وقابلةٌ بأن ينهبُ معظمُ ساستها الثروة النفطية الهائلة التي تكاد تصل الى 1500 مليار دولار منذ العام 2003 حتى اليوم. أيُعقل أن ينجح لُبنان في هزيمة إسرائيل عسكريا (وفق اعتراف تقرير فينوغراد الإسرائيلي)، ثم ينهزم داخليا شرّ هزيمة، وتقف جميع المحاور تتفرّج على انهيار الدولة دون قدرة ( أو ربما دون رغبة عند البعض) في إنقاذها.
مُعظمُ الخارج يُرتّب أمورَه بخطط قصيرة وبعيدة المدى مهما اختلف وتنافر مرحليا، ولن يجد في هذا الوقت الميت، افضلَ وأنسب من ساسة يتناحرون في داخل كل دولة. يتخاصمون على القشور، ويمارسون لعبة الانتحار الأخيرة، قبل أن يأتيهم ترتيب أنظمتهم كما يشاء الخارج، لا كما تفترض مصلحة أوطانهم.
لُبنان والعراق والسودان وليبيا خير أمثلة على ذلك حاليا، وبامتياز قلّ نظيرُه. هي حتماً لُعبةُ المحاور من الخارج، وألعابُ الأغبياء في الداخل. وهي ألعابٌ صارت مُمّلة لدرجة أن الشعب التابع بمعظمه لقادته المتخاصمين، ما عاد يستسيغ التفرّج عليها، حتى ولو أنها تُنذرُ بتدهور أمني وإقتصادي اسوأ.