آخر خبرثقافة ومنوعات

دوستويفسكي بعد 200 عام،كأنه معنا الآن في أوجاعنا.

ديانا غرز الدين

ندُر ان حلق روائي عاليا فوصل الى قمّة عرش الأدب العالمي، او انخفض عميقا حتى قاع المناطق المظلمة والسحيقة للنفس البشرية كما فعل هو. كان يكفيه ان يتخيل الناس والاحداث كأنها امام ناظريه، حتى تنساب كلماته كمياه نبع هادئ في ليلة ربيع دون جهد.. كان يكفيه أن يشاهد ناس وأحداث بيئته ليبدع، فيقول إن ” كل شيء مرهون بالبيئة التي يعيش فيها الانسان، كل شيء تحدده البيئة والانسان في ذاته لا شأن له.”

 مع دخولنا قبل أيام الى المئوية الثالثة لعملاق الادب الروسي والعالمي فيودو ميخايلوفيتش دوستويفسكي ما زلنا نعيش أدبه كأنه كتبه بالأمس القريب. فالأحداث تتكرر والشخصيات تتشابه، ونراه يقول ويفعل ما لا نجرؤ نحن حتى على التفكير به في بعض المرّات أو الاعتراف به أمام ذواتنا. هو ما زال حتى اليوم ينبش رغباتنا الدفينة وينفض الغبار عن افكارنا السرية واحلامنا وخيباتنا وهزائمنا وآمالنا، ويصوغها جميعا بعمقٍ نفسي وبراعةٍ لا يضاهيه فيهما أحد.    

  تعدّدت في رواياته الشخصيات الاشكالية والمعقدة كالمجانين والسكيرين، والقتلة، والمجرمين، والمرضى. وتنوّعت فيها الأحزان والبؤس والتعاسة التي لا حدود لها، كيف لا وهو قد عاش فعلا جحيم دانتي على الارض في حياته الواقعية؟ فجاءت رواياته أيضا انعكاسا لحياته الخاصة حتى لتشعر احيانا بثقل كتاباته وقوة وطأتها على النفس فتحتاج لشيء من الراحة او الابتعاد لتتخفف من قوة تأثيرها. ألم يعترف في “رسائله” بان الاوقات المثلى بالنسبة له للكتابة هي تلك التي يشعر فيها بكآبة شديدة؟”

  في ” رسائل من تحت الارض” قال ” انه قد ذهب الى ابعد حد في حياته في امور لم نجرؤ نحن على سير نصف الطريق اليها.” وفي “الجريمة والعقاب” قال إن:” الجريمة هي احدى طرق الاحتجاج على غياب العدالة المجتمعية.” وقد صُنّفت هذه الرواية على أنها واحدة من أهم عشرة كتب في تاريخ الادب العالمي.  

من أقوال هذا الأديب العالمي الاستثنائي إن:” محاكمة النفس أصعب وأبغض من المحاكمة الارضية باسم القانون، فالقانون هنا ينطلق من الضمير.”. وفي قوله هذا، فان دوستويفسكي يناقش ضمير الفرد والاشكالية الاخلاقية عند الانسان ويكسر الكثير من المُسلّمات والمحرّمات والآراء المُسبقة، فحين يرتكب مثلا أحد أبطال روايته جريمة مزدوجة، فإنه يكون بنظره قد ” قّدم خدمة للإنسانية لكنه وقع فريسة جنون الريبة وتأنيب الضمير وعوامل نفسية شتى كانت سببا في دماره الداخلي الى ان وصل لمرحلة لم يعد قادرا على التحمل والاستمرار فسلّم نفسه”.

من الصعب الكتابة عن اديب وروائي يختزل في شخصه “مستشفى متنقلة من الامراض النفسية ومكتبة من الفلاسفة وسربا من المتدينين وحفنة من المجرمين.” وفق ما قال الشاعر حسين البرغوثي، فهو عالم نفسي كما قال عنه نيتشه، وهو الذي وهبنا فكرة عن الناس الذين هم نحن بحسب فرويد. وهو فوق كل الفلاسفة حسب تعبير الفيلسوف سيوران.  منه نتعلم عن الانسانية والحياة والكون.  ذلك أن قصصه ورواياته هي سعي للاعتراف بحقيقتنا الداخلية.

في روايته الشهيرة ” مذلون مهانون ” يقول فيودور ان “الشر قوي على هذه الارض، فإن لم تقف في مواجهته الا فضائل صغيرة، فلواء النصر معقود له. ” هو يناقش في هذه الرواية قسوة المجتمع الراقي واستهتاره وتلاعبه بحياة الناس الفقراء. ويرى أن المال هو صنو القسوة والتكبر والطمع، وأن الفقر هو صنو الحنو والتعاطف وكرم النفس. فهل يصمد الكبرياء الجريح للأب المهان امام صلف وغرور وحقارة الامير الارستقراطي رب عمله؟ وهل تتهدم جدران الكبرياء امام صدق العواطف الابوية؟

  في رواية اخرى، يخبرنا فيودور عن عالم كنّا عنه غافلين، فهو يكتب عن ذكريات مروّعة رهيبة حصلت في ظروف كاوية هي ثمرة تجربته الشخصية في السجن. هناك يهبط الى الاغوار العميقة للنفس.  فيقول في كتابه ” ذكريات من منزل الاموات”: ” ان الانسان، اثناء الحسرات التي يحسها في سجن الاشغال الشاقة، يرتوي بالايمان كما يرتوي العشب اليابس بماء المطر. انه يجد الايمان اخيرا لأنه يظهر في ساعات الشقاء اقوى وضوحا واشد سطوعا. “

ولد فيودور دوستويفسكي في ١١/١١/١٨٢١ في مدينة موسكو لأب بالغ القسوة وتوفي في بطرسبورغ.  درس في المدرسة العسكرية مع ابناء السادة والاغنياء ولم يكن قادرا على شراء مجرد كوب من الشاي. وقف على منصة الاعدام واعفي عنه في اللحظة الأخيرة، ليصار الى ترحيله الى المعتقل في سيبيريا حيث عاش سنوات قاسية.  واجه في حياته الكثير من المصاعب وكثيرا من الناشرين المستغلين والنقاد الحاقدين وديونا لا تنتهي واقارب جشعين و موت ابنه و اخيه بالاضافة الى داء الصرع الذي كان يعاني منه. كتب أكثر من ٢٥ رواية في حياته.  أشهرها الجريمة والعقاب، الاخوة كارامازوف، مذلون مهانون، الزوج الابدي، الفقراء، وغيرها… ولو أنه كتب هذه الروائع في عصرنا، لكان على الأرجح انتقل الى ضفة الأثرياء ذلك أن رواياته تُرجمت الى كل لغات العالم. ربما لحسن حظّنا أنه لم ينتقل، فحياتُه كانت سببا أساسيا في إبداعه الذي لا حدود له.  

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button