سامي كليب
يتشابه لبنان والعراق في المصائب. فالدولة فيهما موزّعة حصصا على شخصيات وأحزاب وزعامات مذهبية، وهذه الأحزاب والزعامات تحتقر الدولة ولا ترى فيها سوى بقرة حلوبا. ومعظم هذه الأحزاب والزعامات يحتقر أيضا الناس بحيث يعتقد انه يستطيع قيادتهم لاحقا كما قادهم طيلة العقود الماضية كالأغنام الى صناديق الاقتراع، أو صناديق الموت.
وفي البلدين التأثير الخارجي أقوى من الداخل، فترتفع قيمة هذا الطرف أو تنخفض بقدر ” ولائه” لهذه الدولة أو تلك في الإقليم أو العالم. وفي البلدين كذلك، أجهزة الاستخبارات الخارجية تنخر البلاد طولا وعرضا، وثمة أسلحة كثيرة غير السلاح الرسمي للدولة.
وفي البلدين خصوصا لا أحد يقدّم مشروع دولة مدنية عادلة تقفز فوق المذاهب والطوائف والمصالح الضيقة لتبني الوطن. فكانت النتيجة أن نُهب من ثروة العراق الهائلة منذ الاجتياح الأميركي البريطاني مئات مليارات الدولارت، ونُهبت أموال الناس في لبنان، ودُمّر البلدان.
وأخيرا فإن البلدين لم يُطبّعا مع إسرائيل لكن فيهما من تعامل تاريخيا مع الموساد والاستخبارات الإسرائيلية، وفيهما من يريد الاستقلال الكامل عن بقية المكّونات، وفيهما من يعتبر انه حان الوقت للتطبيع.
رغم كل المصائب هذه، دخل العراق معركة الانتخابات، التي ما أن أسفرت عن تراجع صادم للولائيين المتحالفين مع إيران ( وفي مقدمهم تحالف الفتح الذي يضم خصوصا الحشد الشعبي والفصائل) ، وتقدّم كبير للتيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر ( الذي بات صانع الملوك وفق تعبير فايننشال تايمز) وكذلك لتحالف ” تقدّم” بقيادة محمد الحلبوسي ( قيادي سني وكان رئيسا للبرلمان) ، حتى انفجر الوضع بالتظاهرات والاتهامات التي خرجت عن كل ضوابطها الأخلاقية والسياسية عبر وسائل ” التباغض الاجتماعي”، فقال الخاسرون ان عملية تزوير واسعة حصلت بمؤامرة خارجية ساهمت فيها دول خليجية ( سلطوا الضوء خصوصا على الامارات)، وأنه لا بد من إعادة الفرز او حتى إعادة الانتخابات، بينما راح الصدر ينسج التحالفات لتشكيل حكومة وحدة وطنية جامعة تترك جانبا الخاسرين وهم على الأرض أقوياء.
ما هي الدروس المُستفادة ؟
- أولا خسر الولائيون لأنهم لم يتجاوبوا فعليا مع مطالب الناس الناقمين على الأوضاع المعيشية والاقتصادية والاجتماعية ولأنهم مارسوا السلطة سنوات طويلة وغالبا من يُمارسها يجذب نقمة الناس. بينما ربح السيد مقتدى الصدر لأنه تبنى مطالب الناقمين وتظاهر معهم ورفع شعاراتهم وناهض من يناهضونهم.
- ثانيا خسروا لأنهم غالوا في تقييم ” فائض القوة” أو ” الغرور السياسي والأمني” كما يقول باحث عراقي لموقع لعبة الأمم، فضّل عدم الكشف عن اسمه، واعتقدوا انهم ناجحون حتى لو جلسوا في بيوتهم، وان محاربتهم الحاسمة لداعش تكفي لرضى الناس.
- ثالثا: حاكم الناس أداء النواب والسياسيين المنبثقين عن التيارات التي حكمت العراق، وقالوا إن هذا الأداء لم يبن دولة ولا سد الجوع ولا أوقف التدهور والفساد وأن النواب لم يفعلوا شيئا مهما.
- رابعا تشتت أصوات الخاسرين بسبب صراعاتهم وتنافسهم الداخلي، حيث تشير تقديرات علمية الى أنهم كانوا قادرين على الفوز بمقاعد أكثر لو أنهم تعاونوا وتحالفوا ولو أحسنوا إدارة المعركة الانتخابية.
- خامسا أحسن التيار الصدري تنظيم نفسه والعمل كمؤسسة، وأدرك التغييرات الواجب أخذها بعين الاعتبار في القانون الانتخابي الجديد، فبرعت ماكينته الانتخابية في حث الناس وجذبهم الى التصويت بينما فشلت الماكينات الأخرى بسبب هشاشتها.
- سادسا: لعبت المذهبية وأيضا الارتباطات الخارجية دورا مهما، فبعد التيار الصدري، تصدر النتائج ” تحالف تقدّم” بقيادة رئيس البرلمان المنتهية ولايته والقيادي الشاب محمد الحلبوسي، والذي يرفع لواء الانتماء العربي وله علاقات ممتازة مع دول الخليج. بينما تيار الزعيم الشيعي عمّار الحكيم المنادي أيضا بعلاقات عربية قوية فشل في تحقيق نتائج تذكر.
كان لافتا أن إيران نفسها سارعت الى التهنئة بالنتائج واعتبارها وفق ما قال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان ” رمزا لمكانة الديمقراطية في العراق”. لعلّها هضمت قبل حلفائها نتائج الخسارة، وأرادت تعلّم الدروس وإعادة لملمة شمل حلفائها الموزّعين في ولاءتهم بين الحرس الثوري ( فيلق القدس) و اطلاعات ( المخابرات) و الخارجية وغيرها. ذلك انه بعد قتل قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني، فقدت طهران جزءا من قدرتها على الإمساك بالوضع العراقي، وهو وضع بالأساس صعب الإمساك تماما ذلك ان المرجعيات الدينية العراقية كانت وما زالت تعتبر أنها هي الأساس في المرجعية الشيعية أكثر من قمّ والمرجعيات الإيرانية. كما ان التظاهرات التي اندلعت في جنوب العراق (أي في المركز الشيعي) ضد طهران في العامين الماضيين أعطت مؤشرات واضحة على غضب الناس.
الواقع ان النتائج التي أدت الى اشتباك أمني ومحاولة اغتيال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، أربكت حلفاء إيران وعلى الأرجح أيضا طهران نفسها، وذلك لأن هذه النتائج، وفي لحظة شد الحبال بين واشنطن والإدارة الإيرانية حيال العودة الى التفاوض، وفي أعقاب 4 جولات من المحادثات مع الرياض، قدّمت مؤشرات مقلقة عن هشاشة الورقة العراقية في يد إيران، وعن الحاجة الى تغيير طريقة التعاطي مع شعب يزداد قلقا وفقرا كما هي الحال في لبنان وبعضه يزداد نقمة على ايران نفسها.
ما يعني ان الاكتفاء برفع شعارات ” المؤامرة” لتبرير كل الفشل الداخلي ما عاد ينفع، والاعتقاد بأن من يملك القوة والمال يستطيع الحفاظ على مراكز القرار ” ديمقراطيا”، خاطئ تماما.
الوضع في لبنان مشابه تماما لحال العراق، ذلك ان الصراع بين محورين في أوجه وذروته اليوم، وكل طرف داخلي وخارجي يسعى لتثبيت أقدامه، لكن لو صحا الشعب على عمق الألم والظلم الذي هو فيه، فقد تقلب صناديق الاقتراع كل المعادلات، خصوصا ان من ساند ودعم المجتمع المدني في العراق هو نفسه من يسانده في لبنان، والمصائب في البلدين متشابهة تماما، والمذهبية والطائفية تنتعشان كلما اقتربت الانتخابات، وكلما تناقضت مصالح الخارج على أرض الوطن.
هذا يشي باحتمال تأجيل الانتخابات اللبنانية بذريعة أمنية أو سياسية أو قضائية، أو بحصول تطورات أمنية تقلب المعادلة، ذلك ان كسب رضى الناس في ما بقي من وقت حتى 27 آذار المقبل، ليس بالأمر اليسير بعد سنوات من المصائب المتتالية التي حلّت بهذا الشعب، فمن قاتل إسرائيل ونجح في لبنان لم يستطع مع حلفائه جذب قطاعات واسعة من الناس الى مشروعه الداخلي ولا أوقف الفساد ، ومن ناصب حزب الله العداء، لم يقدّم هو الآخر ما يجذب البيئة التي يتحرك فيها الحزب، وربما الطرفان يغاليان حاليا في تقييم شعبيتهما التي ستشهد حتما اختراقات من قبل الناقمين، ليس بحجم ما حصل في العراق، لكن على الأرجح بصورة لافتة.
لن تقوم قائمة للبلدين، الا إذا صارت الدولة العادلة ذات المؤسسات المستقلة، هي الأساس وليس الانتماءات المذهبية والطائفية والمحاصصة واستقواء الزعامات والأحزاب والطوائف على بعضها البعض