آخر خبرافتتاحية

الشيخ سامي أبو المُنى مسيرة غنيّةٌ أبعد من الشقاق

 سامي كليب

        لو أحصينا كلمة ” حوار” في أدبيات الدكتور سامي أبي المُنى، لتقدّمت على كلّ ما عداها، فالشيخُ الموسوعيُ الثقافة، العميق الإيمان والعرفان والانفتاح، والذي صار منذ أيام ” شيخَ عقلِ” طائفة الموحّدين في لبنان، لا يُجامل في مفاهيم الحوار والتسامح السلام، ولا يذرّ الرمادَ في العيون، بل إن من يقرأ مؤلفاتِه العديدة والقيّمة  في مجالات الأدب والفكر والسياسة والشعر، يُدركُ أن الشيخ سامي الذي خرّج آلاف الطلاب عبر مسيرته العلمية والأكاديمية الطويلة، مقتنعٌ بهذه المقولات حتى اليقين، أو قُل مقتنعاً بها كقناعته بفكر التوحيد، لأنها من صُلبه، كما يقول.

ربما كثيرون سمعوا بالشيخ سامي أبي المُنى مرارا في الأيام القليلة الماضية بسبب الشقاق لا التسامح والحوار، ذلك أن مقالاتٍ عديدة ذكرت أن رئيس اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط هو من أوصله الى منصب ” شيخ العقل” (وهو أعلى منصب رسمي عند أهل التوحيد وليس أرفع منصب روحي)، وأن الأمير طلال أرسلان غير موافق على ذلك بينما رئيس حزب التوحيد وئام وهّاب لم يعترض على وصول الشيخ وفيصل الداوود أمين عام حركة النضال هنأه. لكن كل هذا أمرٌ عابرٌ في مسيرة رجل حمل كتب الحكمة والقرآن الكريم في يمينه، والثقافة والحوار في يساره، وعرف كيف يضع الجميع ،من مسلمين ومسيحيين، في قلبه، وهو ما يؤذن حتماً بأنه سيُصلح ذات البين في طائفته تماما كما ساهم في إصلاح الكثير من الشقاق في وطنه، إذا ما تُرك يتحرك كما يشتهي.

لعلّ كتابَه الزاخر بالمراجع العلمية والحامل عنوان :” الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان-رؤيةُ الموحّدين الدُّرُوز” والذي كان بالأصل رسالتَه لنيل الدكتوراه من جامعة القدّيس يوسف ونال عليها درجةَ جيد جدا في العام 2015،  لعلّ هذا الكتاب، يختصرُ الكثير من نزوعه العميق نحو الحوار والتآلف الديني والمجتمعي والسياسي والتربوي بامتياز، وهذه بعض أقواله:

 

  • إني على يقين أنه لا بديل عن الحوار وأن انعدامه سيقود الى التصادم ويؤدي الى الجهل والتعصّب والكراهية، وهذا بالطبع لن يُريح أحدا، لذلك يقتضي الجهاد والاجتهاد وتقتضي المتابعة، والله تعالى مع الانسان، ما دام الانسان مع أخيه ونظيره الانسان.
  • إن ربح الوطن يتحقّق اذا توجّه الجميع نحو الدولة المدنية أو دولة المواطنة الجامعة، وهذا هو الخيار الأنسب، دولة تستمد روحيّتها من روح الدين ولا تتسمى باسمه، تحترم فرائضَه، لكنها لا تكون أسيرة مظاهره، تؤمّن الحرية الدينية، ولكن ضمن القانون والنظام العام، وتفسح في المجال للحوار والتلاقي في كل مجالات الحياة العامّة، وتعيد التأكيد في كل مرة على صيغة العيش المشترك بين العائلات الروحية جميعها.

وإذ يُشدد الشيخ سامي أبو المُنى في مواضع كثيرة جدا من كتابه على الحوار والتلاقي، فإنه بالمقابل يعتبر أن ثمة مسؤولية على الجميع في تصحيح الكثير من الخلل، فيقول مثلا :” إن تطبيع العلاقات بين المسلمين أنفسهم أصبح اليوم أكثر إلحاحا، لتسهيل الحوار الإسلامي المسيحي، وبالتالي الحوار الوطني خصوصا بعد أن تحوّلت الأنظار الى المشكلة المتعاظمة بين السنّة والشيعة” ويضيف :” ولا يمكن طمأنة المسيحيين في لبنان الاّ في نطاق التضامن الوطني، والا اذا نظروا الى العروبة بأنها لا تشكّل خطرا على المسيحية، واذا لم يتنكّروا لها، وبالتالي اذا عادوا الى دورهم الريادي في العالم العربي، والأمر نفسه ينطبق على المسلمين أذا تيقنوا أن الإسلام والمسيحية اللذين وُلدا في هذا المنطقة لم يأتيا كردة فعل، والله لم يُنزل كلمته لأنه انفعل، بل كانت كلمته تلك أصيلة أزلية ” ( وهو في هذا يستند أيضا الى ما قاله المفكّر التوحيدي الراحل سامي مكارم).

الشيخ سامي أبو المُنى الذي يقدّم في كتابه-المرجع هذا قراءة عميقة ومسؤولة وعلمية لتاريخ لبنان وطوائفه وضرورة التلاقي والحوار وتقديم الدولة المدنية على ما عداها، يشرح كيف أن الخارج الذي تغيّر وتبدّل كثيرا بين الغرب والشرق وبعض العرب وإسرائيل، لعب أدوارا فتنوية عديدة في تاريخ وحاضر لُبنان، لذلك فإن لا شيء يحمي الوطن غير الوحدة والتلاقي والحوار.

الموحّدون والإسلام والعروبة:

وهو في شرحه هذا يعيد قراءة تاريخ الموحّدين، الذين يتنكّرون لهذا اللقب ” الدروز” لكونه جاء ” نتيجة خطأ تاريخي مُتعمّد سعى أصحابُه الى إلحاق الموحّدين بأحد الدعاة الخارجين عن الإسلام والتوحيد وهو نشتكين الدرزي الذي طُرد وقُتل في ما بعد لِما ادّعى وزوّر، وهم لا يرتضون لأنفسهم الّا الاسم الوارد في تواريخهم الصحيحة والمرتبط بطبيعة مذهبهم القائم على مبدأ وحدانية الله تعالى، والهادف الى وحدة الإسلام والمسلمين، أي أنهم لا يريدون ان يُعرفوا الاّ بمسلمين موحِّدين، أو ببني معروف” .

الواقع أن ثمة مغامرة كبيرة يخوضها الشيخ سامي أبو المُنى في التذكير بالأصل الإسلامي للموحدين، أو بشرح أصولهم وافكارهم وانتمائهم، ولذلك قال عنه الأب البروفسور سليم دكّاش رئيس جامعة القدّيس يوسف : “إنّ الولوج إلى هذا الموضوع كان يتطلّب شجاعة أخلاقيّة وكذلك شجاعة أدبيّة عقليّة لأنّ التطرّق إلى أمور تخصّ أصحاب “مسلك التوحيد” هو أمرٌ لا يبرع فيه سوى العارفين القلائل”

إنها مغامرة فعلية لأنه بالرغم من أن معظم مفكّري الموحِّدين ذهبوا بهذا الاتجاه، أي الأصل الإسلامي منذ انطلاق الدعوة في عهد آخر الخلفاء الفاطميين في مصر، الاّ أننا ما زلنا نجدُ بين عامة الموحّدين أو حتى بين بعض شيوخهم ومثقّفيهم من يريد التمايز عن الإسلام والمسيحية. ولكن الشيخ سامي يُصرّ في أدبياته على هذه الروابط مع الإسلام الحنيف والقرآن الكريم وأيضا مع العروبة كحاضنة مُكمّلة للإسلام ومتّسعة للمسيحيين الذين هم في أصلها.

وهو في ذلك يعود الى مراجع عديدة للمفكّرين الموحّدين من سامي مكارم وعجاج نويهض وعباس أبو صالح، الى شكيب أرسلان، وينقل عن هذا الأخير قوله أن عروبة الموحِّدين مؤكدة :” من خلال سحنتهم ولونهم، واخلاقهم وعاداتهم ولفظهم العربي الفصيح الذي لا يساويهم فيه أحدٌ من جميع سكان سورية، وإنهم فرقة من الفرق الإسلامية”، كما يقتبس عن كتاب ” علامة المؤمن” الصادر عن مشيخة العقل في لبنان أن “جذور الموحِّدين تتشابك بأنساب القبائل العربية الأصيلة خصوصا منها تلك التي استقرّت في بلاد الشام معتنقة الإسلام واضطلعت بدور المثاغرة ( أي الدفاع عن الثغور)، وقد جاء الموحِّدون الى هذه البلاد مع قبائل الفتح العربي الإسلامي قبل تقبّلهم الدعوة الى مذهب التوحيد “.

ويلفت الشيخ سامي الى مسألة مهمّة جدا، وهي أن باب الدعوة التوحيدية أُقفل فما عاد الموحّدون بالتالي يشكّلون خطرا على أحد، ذلك أنهم لا يُبشّرون بمذهبهم لإقناع الآخرين باعتناقه وإنما ينطلقون من صفات التسامح وعدم التعصب والحوار والسلام والمسلك الإسلامي التوحيدي العرفاني الارتقائي للالتقاء مع كل الأديان والمعتقدات الأخرى.

الشيخ المثقّف الخطيب

اذا كانت أجيال عديدة عرفت الشيخ سامي، مُربّياً استنثائيا بعمق معارفه وحسن إدارته وعشقه للعلم والأدب والشعر من على منصة مدارس ” العرفان” الرائدة، فإن كثيرين عرفوه أيضا خطيباً ألمعياً فصيح العبارة، ينتقي الكلام كصائغ الذهب ويقولها كخطباء اليونان، حتى لتكاد تشعر بأن لا كلمة زائدة ولا أخرى ناقصة في خطابه الانفتاحي.

 

لا يوازي عمق ثقافته الا تواضعه الجمّ المرتبط بفهمه العميق لكون الحياة  لا تستحق التعلق بأمجاد وهمية وأنها مجرّد عبور الى عالم أرحب وأن الروح ترتقي بخير حاملها أو تهبط بشروره، ولعلّ هذا ما نشعره من قوله قبل فترة :” أيام قليلة وأبلغ سن التقاعد بحسب الهوية. كم هو جميلٌ شعور الاطمئنان والرضا بعد عمر من العطاء والثبات! وكم هو أجمل التوق إلى ارتقاء درجات السكون والحكمة، لا الدرجات الدنيوية! ففي الأُولى سعادة الروح في ارتقائها، وفي الثانية إرهاقها في عملٍ قد يستحق التضحية، ولكن شتّان بين هذه وتلك.

سيرةٌ غنيّة وعميقة

الواقع أن الشيخ سامي أبا المُنى وكما قال عنه الدكتور أحمد حطيط الذي أشرف على اطروحته :” صاحبُ رؤية حوارية استمدّها من تجربته الواسعة في ميدان العمل المؤسساتي والاجتماعي في طائفة الموحّدين، من موقعه كأمين عام لمؤسسة العرفان التوحيدية، ورئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي للطائفة الكريمة في لبنان، ومن خلال علاقاته العابرة للطوائف ، حيث هو عضو في غير ملتقى حواري وتربوي واجتماعي، وله اسهامات علمية موثوقة في مؤتمرات وندوات حوارية في لبنان والخارج”

الموحّدون في نظر الشيخ سامي متشبثون بخصوصياتهم وتراثهم، الّا أنهم يقدمون ولاءهم الوطني على أي ولاء آخر ويؤثرون الخروج من دهاليز الطائفية الى صيغة وطنية مدنية تمُيّز الدين عن الدولة لكنها تحترم الدين وتمنحه حريته المطلقة تحت سقف القانون والدستور.  وهو اذ عرض في كتابه وأدبياته لحالات المودة والتسامح والتلاقي في زمن التنّوخيين والمعنيين في لبنان، فلأنه أراد التذكير بتلك النماذج والبناء عليه، على اعتبار ان مراحل الشقاق اللاحقة والفتن المتنقّلة منذ العام 1860 حتى اليوم هي فعل قوى خارجية ساهمت في تدمير الوطن.

وكم مرّة قال الشيخ سامي قصائد مدحٍ في إخوانه من الطوائف الأخرى ليؤكد على وجوب لغة الحوار الإنسانية العابرة للطوائف والحدود، فقال مثلا في حضرة المطران رولا أبو جودة :

” شيخٌ يُكرّم مطرانا له وقَفَ

يُهديه حُبّاً قد جاء مُعترفا

كأنما نجمةُ التوحيدِ تهتف كي

تلقى الصليبَ المسيحيَ الذي هتفَ

نأتي الى الجمع كلٌّ من عقيدتِه

والحقُّ كالدار يعلو الشكلَ والصدفَ

لا شيءَ الا سلامُ الربِّ في يدنا

والصِدقُ يَبعثُ منه الشوقَ والشغفَ”

يجمع الشيخ سامي أبو المُنى في شخصه كثيرا من الروحانية والثقافة والفكر والفلسفة الوجودية، فيتوسط المقام بين كمال جنبلاط وشكيب أرسلان وأهل العرفان والنسك والزهد والفلسفة. واذا ما استطاع أن يتحرك بحرية فكره وعمق انفتاحه وتحلّل من التأثيرات الدينية والسياسية في طائفته وخارجها، فلا شك أنه سيُحدث فرقا كبيرا من خلال موقعه على رأس مشيخة العقل، ذلك أنه من بين كل سابقيه الأفاضل، هو حتماً الأكثر عِلما دنيويا وثقافة موسوعية إضافة الى العمق الروحاني ( الذي تعمّق أكثر بعد وفاة ابنه) والفكر والأدب والفلسفة والشعر.

فهل ينجح في ما يسعى ويطمح، أم تعيقه خلافات السياسة؟ نأمل أن ينجح لكن في الحالتين يبقى الشيخ سامي أبو المنى أحد المنارات الثقافية والفكرية الفريدة عند أهل التوحيد.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button