عمّار الحكيم: أسئلة ” الحكمة” والسيادة!!
سامي كليب
وصلت السيارةُ السوداء المصفّحة الى موقف الفندق تماما كما اتفقنا مع دكتور محمد الشمّري المستشار المثقف والأنيق للسيد عمّار الحكيم أحد الوجوه الدينية والسياسية الشيعية البارزة في العراق والرافع لواء الوسطية في السياسة الخارجية، والمؤكِد أنه يريد استقلال القرار العراقي عن مؤثراته الخارجية حرصا على الشيعة والعراق. فهل يُغلّب الوطنية فعلا على المذهبية؟ وهل يريد استقلال القرار العراقي، أم يواجه النفوذ الإيراني بنفوذ خليجي كما يقول خصومه؟
وصلت السيارة الى الموقف وليس الى أمام باب الفندق، ذلك لأن الأمن الموكل الى شركة بريطانية، دقيق التفتيش، لا يسمح لأي سيارة بالاقتراب أكثر من اللازم، حتى يكاد الداخل والخارج الى ومن الفندق، يشعر بأنه أمام قلعة أمنية حصينة تُراقب دبيب النمل. كيف لا يكون كذلك، وآثار التفجيرات الانتحارية هنا وفي المحيط القريب ما زالت حديثة الذكرى والدماء.
المسافة بين باب مقرّ السيد عمّار الحكيم، ومكتبه طويلة، اجتزنا في خلالها مبانٍ عديدة لكنها جميعا منسّقة وأنيقة ونظيفة، أوحت لي المسافة بيُسر حال الرجل وجماعته وبقدرات مالية جيدة ونفوذ واضح، وما أن فُتح المكتب الرئيسي أمامي حتى وجدتني في مكان يُشبه أناقة المكاتب الكبرى في العواصم الغربية، ولعل النوافذ المُطلّة على نهر دجلة زادته سحرا وأناقة، وزادت قناعتي بأن مضيفي ابن العائلة العريقة دينيا وسياسيا واجتماعيا يتمتع بما يمكّنه من لعب دور سياسي جيد في البلاد.
استقبلني السيد عمّار الحكيم بوجهه البشوش، فبدا لي أصغر من عمره الخمسيني وأكثر دماثة مما ظننت. سرعان ما شعرتُ بدفء الحوار وصراحته، وذلك فيما كانت فناجين القهوة والشاي والكمّون وأشياء أخرى تتعاقب على الطاولة أمامي، بترتيب لافت من قِبَلِ عامل المنزل الأنيق الثياب والحركات.
الزعامة بين الوراثة والشرعية
السيد عمّار الحكيم ورث الزعامة الدينية والسياسية عن عائلة عريقة التجربة الصعبة في عهد النظام السابق، وهو يقول إنه يعمل للحفاظ عليها وتطويرها وتكييفها مع متطلبات العراق والعصر. اسمه الكامل: عمّار عبد العزيز محسن الطباطبائي الحكيم، كان والده عبد العزيز الحكيم يُلقّب ب ” عزيز العراق” وهو حفيد المرجع العراقي الأعلى الإمام السيد محسن الحكيم، وهو كذلك أبن شقيق آية الله محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق والذي اغتيل بسيارة مفخخة في النجف عام 2003. وفي العائلة أيضا أسماء ومرجعيات دينية كثيرة من ناحيتي الأب والأم، ما يؤكد عراقة جذور هذه العائلة.
كيف لكلّ هذا التاريخ العائلي ألّا يفرش أرض الوراثة بالورود أمام الشاب عمّار المولود عام 1971 في النجف الأشرف، حين تولى رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى عام 2009؟ لكن الورود لم ترافق صباه وريعان الشباب، فهو هاجر قسرا مع عائلته الى دمشق عام 1979، ثم الى طهران حيث تعلّم في مدارسها وأتقن اللغة الفارسية، ثم حصل على ماجستير الشريعة، ليختم ذلك بمرحلة البحث الخارجي (وهي من المراحل المتقدمة في دراسات الحوزة الدينية).
شيعة العراق وإيران
صراحة الحوار مع السيد عمّار الحكيم، شجّعتني على طرح الأسئلة الأعمق حول العلاقات العراقية مع إيران والعرب، ومنها مثلا ” لماذا يوحي كثير من شيعة العراق اليوم بأن مفاتيحهم هي في إيران وليس في العراق العريق بحضارته وتاريخه ومرجعياته الدينية؟”.
يبتسم السيد عمّار الحكيم، يسوّي عمامته السوداء، ثم يرتد قليلا الى الخلف حتى يكاد يُلامس بظهره العلمَ العراقي خلفه ويقول:” ربما ثمة مغالاة في الكثير مما يُقال، فإيران بالنسبة للشيعة هي امتداد وتواصل طبيعان في المسألة الدينية والفقهية، وتشبه الى حد ما حال العلاقة المسيحية الكاثوليكية مع الفاتيكان. المسيحي يعود الى البابا في المسائل الدينية وشؤون العبادة دون أن يتخلى عن ولائه لبلده، ولو دقّقنا في الأمر سنجد أيضا أن الشيعة الإيرانيين متعلّقون بالمرجعة العراقية التي يُمثّلها حاليا السيد السيستاني، ولا ننسى أن النجف الأشرف كانت طيلة أكثر من ألف عام موئل الرأي الديني للشيعة في العالم “
ما يقوله السيد عمّار الحكيم يستند الى إحصاءات دقيقة، ذلك أنه في خلال موسم الحج مثلا، وحين يُسأل الشيعة الإيرانيون عن مرجعهم الفقهي، لكي يُوجَّهوا الى الفتوى المناسبة للحج، يقول قسم كبير منهم إن مرجعهم هو السيد السيستاني. وقد سالتُ السيد الحكيم عن هذا الأمر فأكده لي شارحا أهمية المرجعية الشيعية العراقية تاريخا وحاضرا، ويمكنني أن اختصر جلّ ما قاله أو ما كتبه عن الشيعة وإيران والعرب بالتالي:
- بعد سقوط صدّام حسين فوجئ المحيط العربي بعدد وحجم الشيعة في العراق، وكان هذا المحيط متقبّلا أن تكون إيران شيعية، لكنهم لم يتقبّلوا أن تكون حكومة ذات محورية شيعية في بلد عربي. ومع مرور الوقت جرى تطبيع نفسي وصار الأمر مقبولا.
- إن شيعة العراق يتمسكون بخيار الدولة والمواطنة، ولم ولن يشعروا بالآمان الاّ في ظل وطن واحد موحّد، فنحن وكما يقول السيد السيستاني لا نعتبر السنّي أو الكردي في وطننا شريكا وإنما هو نفسنا.
- لا يجوز عند الشيعة أن يكون إمام المسجد مفتيا، والمراجع هم من يتمتعون بحق الإفتاء، وقد يوجد المرجع في وطن آخر ويتبعه الناس في أي وطن آخر.
يبدو السيد عمّار الحكيم مقتنعا بأن المواطنة تحمي العراقيين جميعا وفي مقدمهم الشيعة، فهو يسرد احصائيات لافتة ومنها مثلا أن العراق يضم 49 % ممن هم دون التاسعة عشرة من العمر، وان نصف العراقيين تقلّ أعمارُهم عن 30 عاما، و90 بالمئة منهم تقل أعمارهم عن الخمسين عاما، وهذا المجتمع الفتيّ الشاب، يحتاج الى تآلف ووحدة وفرص عمل كي يبني دولة قوية وعصرية تتمتع بثرواتها لتنهض بمشروعها الوطني، وهذا لا يتم بالانغلاق داخل الطوائف، ولا بالانعزال داخل الوطن وإنما بالانفتاح على الجميع والخروج من لعبة المحاور.
الحشد الشعبي
شعرتُ للحظة وأنا استمع الى الشرح المستفيض من قبل المرجع السياسي والديني المُحافظ على حيوية الشباب وهو يشارف على الخمسين من عمره، أنه في حديثه هذا إنما يوجه السهام الى أولئك الذين اختاروا إيران أو أميركا أو الخليج مرجعية لهم فانغلقوا داخل محاورهم وأقفلوا الأبواب على الآخرين، لكن الرجل أشاد ب “الحشد الشعبي” في بلاده وبدوره في حماية البلاد من داعش والإرهاب، لعلّه مقتنع تماما بدور الحشد في حماية البلاد، أو أنه يُدرك تماما أن الحشد صار حجر الرحى في التوازنات الدقيقة وقرارات كثيرة تماما كما حال حزب الله مثلا في لبنان.
الواقع أن علاقة السيد عمّار الحكيم بالحشد لها عوامل تاريخية وعائلية، فهو يعتبر أن والده هو من طرح الفكرة الأولى للحشد، ويقول في خطبة له في حزيران/يونيو 2016 :” ان فكرة انشاء اللجان الشعبية التي طرحها عزيز العراق في العام 2008، هي فكرة الحشد الشعبي الذي أصبح حقيقة، وأنقذ البلاد من شرور الإرهاب، فلو كانت اللجان الشعبية أخذت طريقها لتكون قوة رسمية معترفا بها في ذلك الحين، لكان الحشد الشعبي قد تأسس في العام 2008 من جميع العراقيين، ولكنا درّبناه بشكل صحيح وتلافينا الكثير من المطبات التي وقعنا فيها في وقت لاحق” . غير أن هذا القول والاشادة بدور الحشد لا ينفيان حصول تنافر بين الطرفين أكثر من مرة.
لعلّ هذا بالضبط ما يثير ضبابا كثيرا حول تشعّبات علاقات السيد عمّار الحكيم. فهو يقدّم نفسه وسطيا يريد محاورة الجميع، وخصومه يتهمونه بمحاباة الخليج ودول أخرى ضد إيران، ويصل البعض بشكوكه الى الحديث عن علاقة تجمع الحكيم مع الغرب وفي مقدمه أميركا، أما هو فلا يخفي حاجة العراق للحوار مع الجميع وأنه هو نفسه منفتح على الجمع تحت سقف أولوية القرار العراقي وسيادته. ‘
العمق العربي
يتشعبُ حديثُنا، ويمتد الى الدور العربي في العراق، وأنقل اليه لوم بعض العراقيين للتخلي العربي عنهم وقولهم إن هذا التخلي هو الذي وسّع الدور الإيراني على الأراضي العراقية، يبتسم الرجل، يبدو في خلال تلميحاته صاحب روح مرحة الى حد ما وسرعة بديهة وقدرة على قول ما يريد بعبارات مدروسة على غرار معظم طلبة الحوزات الدينية. يشرح أن العراق بلا عمق عربي يفقد أحد أهم اجنحته، وأن العراق المقسّم يتحلل وينتهي، ويروي في ما كتب أنه ذهب أكثر من مرة للقاء الرئيس مسعود البارزاني أحد أهم زعماء الكرد حين ظهرت دعوات الانفصال قائلا له :” ليس في مصلحة العراق، ولا في مصلحتكم ذلك المشروع الانفصالي، ولا شيء يحميكم الا العراق الموحّد مع احترام خصوصية كل مكوّناته الثقافية والدينية واللغوية وغيرها”.
في تاريخ الرجل ذكريات كثيرة مع قادة عرب نسج معهم علاقات منذ زمن بعيد، وروى بعض ذكرياته معهم في كتابه ” رحلة وطن-قصة حياتي”، وقد لفتني أنه يروي قصة حياته قبل أن يكمل الخمسين حولا، وتساءلت عمّا إذا كان قد رواها فعلا كي يترك شواهد على ما عاشه وعايشه، أم أنه أراد توجيه رسائل تفيده في مستقبله السياسي؟ لا شك ان الهدف الثاني هو الأهم.
من ذكرياته في الكتاب مثلا:
- قال لي الرئيس حسن مبارك ” احذروا من الأمريكان، هؤلاء ما دخلوا بلدا وخرجوا منه، ليست لديهم نوايا طيبة تجاهكم، سوف يقولون لكم الكثير من الكلام الجيّد، لكنهم سيبقون عندكم”
- الرئيس عبد الفتّاح السيسي لديه روح نقيّة، ولاحظت عنده حالة صوفية، وقد فوجئت بهذا الجانب الإنساني بالنسبة لقائد عسكري كبير يمتلك هذا التاريخ، وقد وجدت فيه مخافة الله.
- كانت علاقتي بالعاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبد العزيز آل سعود، وديّة لغاية، وكان يتحدث عن التاريخ بشكل شيّق، ويمتلك رؤية بشأن ضرورة الوحدة بين المسلمين، كما كانت صلتي قوية بالأمير نايف بن عبد العزيز فهو كان ذا شخصية طيبة وودية.
- كانت زيارتي للملك عبدالله الثاني (الأردن) عام 2007 جيدة للغاية، كان حديثه أشبه بحديث أخ الى أخيه، وهو شخص مباشر ينطلق الى هدفه بأسرع طريق
- التقيت مع الشيخ محمد بن زايد آل نهيان أكثر من مرة في بداية ولايته للعهد، وتوالت اللقاءات، وهو ودود للغاية، وعميق ومستمع جيّد ودائما ما يوجّه أسئلة دقيقة، انه ببساطة شخصية تمتلك رؤية لما تريد.
- قابلت الشيخ تميم (أمير قطر) عدة مرات، انه قائد شاب، يحب أن يسمع، ويتعرف على جوانب الموضوع، وهو يستمع أكثر مما يتكلم وإذا تكلم يعرف جيدا ماذا يقول.
- إن علاقتي بمملكة البحرين الشقيقة واسرتها المالكة هي الأخرى علاقة وثيقة.
- التقيت بالرئيس بشّار الأسد وهو شخص بالغ الود ويمتلك حديثا دافئا، واسلوبا متواضعا.
في الكتاب أيضا توصيف بسطرين فقط لمرشد الثورة الإسلامية في إيران السيد علي خامنئي فيقول عنه إنه ” يمتلك رؤية واسعة، وعمقا شديدا، وهو يستطيع أن يميّز-مهما طال الحديث-النقاط الأساسية، فيعود اليها، ويبدي رأيا”
أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يشرح أنه التقى به مرّات عديدة فهو ” يمتلك كاريزما القيادة، وهو قائد مباشر وجريء، وهو واضح ومحدّد فيما يريد، لديه مشروع ويتابع مشروعه بشكل جاد”
اللافت في هذه التوصيفات، ان السيد عمّار الحكيم، يلقي على الرئيس المصري عبد الفتاح السياسي صفات الورع والصوفية وغيرها أهم من الصفات التي يصف بها السيد الخامنئي، ويحصر صفة القائد الكاريزمي بالرئيس التركي. هل هذا مقصود لتعزيز حضوره العربي مقابل الحضور الإيراني في العراق، وللتمايز وتعزيز روابط علاقاته من الخليج الى مصر ؟ على الأرجح نعم.
استقلّ السيد عمّار الحكيم، عن ” المجلس الإسلامي الأعلى” وأسس ” تيار الحكمة” مبرّرا ذلك بالخلاف على المنهج والطريق، وبالسعي لترسيخ أسس حرية الرأي والحوار الجاد واعتماد أساليب عصرية تناسب حركة سياسية فكرية ثقافية في القرن الحادي والعشرين، وهو يبدو مع القيادي الشيعي البارز السيد مقتدى الصدر راغبين بهامش واسع من الاستقلالية عن القرار الإيراني، وهذا ما يلقى صدى جيداً عند قسم لا بأس به من الشباب العراقي الذي تظاهر مؤخرا ضد إيران، كما يُلاقي استحسانا كبيرا عند كل الدول التي تعارض طهران ودورها في المنطقة، لكن منافسيه الذي يملكون جزءا كبيرا من القرار السياسي والقوة العسكرية والقريبين من إيران، ما يزالون يحتفظون برجحان الكفة لصالحهم.
الأمير محمد بن سلمان
لا شك أن ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان، يرى في السيد عمّار الحكيم نموذجا شيعيا ممتازا لمواجهة إيران أو على الأقل للتوازن معها وفق ما قال لي دبلوماسي خليجي عريق، ويقول دبلوماسي عربي آخر في بغداد على علاقة بالجانبين، إن الأمير أرسل للسيد دعوة أكثر من مرة لزيارة المملكة، لكن الزيارة لم تتم، ذلك أن عمّار الحكيم يريد التمهيد لنجاحها قبل القيام بها كي لا يفقد قاعدته الشيعية. يقال إنه طلب أن يزور المناطق الشرقية في السعودية ( ذات الغالبية الشيعية) حتى ولو كان ذلك في إطار زيارة مناطق مختلفة، وأن يتفق مع الأمير على الشروع في حلول سياسية وانفراجات في البحرين ذات الثقل الشعبي الشيعي، وغيرها من الأمور التي لا يُمكن لرجل دين شيعي معمّم ألاّ يحصل على بعضها قبل الذهاب الى الرياض نظرا لحساسة الوضع الشيعي. هذا فقط ما حال حتى اليوم دون تلبية الزيارة، لكن الود قائم والتواصل مستمر. وغالبا ما يشيد السيد الحكيم بدور الأمير محمد في تحسين العلاقة مع شيعة المملكة وتعزيز حضورهم في بعض الوظائف الجديدة وغيرها.
هذه المواقف لوريث آل الحكيم، تثير ضده شكوكا واتهامات كثيرة حول علاقاته الخارجية، وتدفع خصومه لمحاولة تطويقه قدر الإمكان مع كل انتخابات سياسية أو تشكيل حكومة، خصوصا أنه لا يملك قوات وفصائل عسكرية تساعده في فرض وجهة نظر مغايرة. ويذهب بعض منتقديه الى حد القول إنه كما الكثير من ساسة العراق يتقاسمون مناصب السياسة ويركّبون التحالفات بما يخدم مشاريعهم ويفيدون من الميزانيات المالية للعراق لتعزيز تياراتهم . وأما حلفاؤه وعارفوه فهم ينفون ذلك نفيا قاطعا بطبيعة الحال، ويقولون إن مشكلته هي في سعيه لاستقلال القرار، وتغيير أنماط الحكم والحكومات والسياسات العامة لتصبح أكثر شفافية، واستقلالا وحرية وديمقراطية.
سر قاسم سليماني
يروي أحد عارفي السيد عمّار الحكيم وهو متخصّص بتاريخ وحاضر عائلة الحكيم، ان قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني الذي اغتيل على الأراضي العراقية، زار الحكيم، حين كان الأخير يسعى لتأليف تحالفٍ سياسي يضم قيادات شيعية وسنّية وكردية، وقال له :” أنت يا سيد عمّار ما زلت شابا، والمستقبل كبير أمامك، وانت تتمتع بشرعية دينية وسياسية وشعبية، ويمكنك أن تصبح مستقبلا قائد الشيعة في العراق، لا بل إنك في شرعيتك هذه وفي علومك الفقهية تتقدم على ( أمين عام حزب الله) السيد حسن نصرالله ما يمكّنك أن تصبح قائدا للشيعة في المنطقة، ولذلك فإن نصيحتي لك هي أن تتخلى عن هذا التحالف الواسع ، وان نُشبك أيادينا ونعمل سويا وسوف ندعمك في هذه الزعامة” فكان جواب الحكيم أنه سيستمر في هذا التحالف، شاكرا لضيفه اقتراحه، فقال له سليماني :” اذا كنت مُصرّا على رأيك، نحترمه، ولكن لن يأتيك السُنّة ولا الكرد الى التحالف” وبالفعل هذا ما حصل ولم يأتِ الا شخصيتان سُنيّتان.
سألتُ السيد عمّار الحكيم عن حقيقة هذه الحادثة والحوار، ففكّر مليا قبل الجواب، ثم اكتفى بالقول :” ان الرجل استُشهد على أرض العراق، وإن جلّ اسراره تُدفن معه”.
ركّز هذا القيادي الشيعي كثيرا في خطاباته على مسألة السيادة واستقلال القرار فأثار كثيراً حفيظة المقرّبين من إيران والدائرين في فلكها لأن سهامه غالبا ما كانت تطالها، فهو يقول مثلا في خطبة له في تشرين الثاني 2018 :” هل استشارتنا الدول في شؤونها الداخلية؟ الإيراني، أو التركي أو السعودي أو القطري أو الإماراتي، أو غيرهم، هل جاء أحدهم يوما وطرق بابنا وأخذ رأينا بقرارات بلده؟ الجواب لا، لم يسالنا أحد أبداً، وإذا أبدينا رأيا قالوا: لا تتدخلوا في شؤوننا الداخلية، فلماذا شأننا فقط شأنٌ إقليمي وعالمي، فشؤون جميع البلدان شؤون داخلية الا شأن العراق، فهو مفتوح للجميع لإبداء الرأي والتدخلات .. وهذا لا يصح”. المُلاحظ أن الحكيم يضع إيران وتركيا وأميركا والدول الخليجية في السياق ذاته، وهو ما يعترض عليه خصومه معتبرين أن إيران دخلت بطلب رسمي وساعدت العراق كثيرا بينما تركا مثلا دولة تحتل جزءا من أرضه.
كنتُ أستمع الى الشرح المستفيض للسيد الحكيم، وأنا استذكرُ بعض آراء السيد محمد حسين فضل الله، والشيخ محمد مهدي شمس الدين في لبنان حول السياسية والدين والحريات والمرأة والديمقراطية والولاء للوطن والعلاقة مع طهران، وأستذكر أيضا زعيم حزب الأمة السوداني الصادق المهدي، ثمة تقاطعات كثيرة بين الرجال الأربعة، لكن الفارق الوحيد هو أن الحكيم ما يزال في الخمسين من عمره، ولعلّ مسيرته ما تزال قابلة لتقلّبات كثيرة وتحالفات جديدة في عراق يسعى لتلمّس طريق المستقبل والنهوض.
ودّعت العراق، وكان الجدل مستمرّا حول شخصية السيد عمّار الحكيم، فاذا كان البعض يعتبر كما يقول الزميل مصطفى فحص في مقاله في صحيفة الشرق الأوسط السعودية أن الحكيم خرج من ” النفوذ المذهبي الى الدور الوطني” فإن البعض الآخر يقول “إن الخروج من الطائفية لا يعني أبدا الخروج من سندِ الطائفة وأولويتها حتى ولو كان السيد الحكيم يسعى للاستناد الى شعبية متعددة في الداخل ونفوذ خليجي في الخارج في خلال توسيع هامش ابتعاده عن النفوذ الإيراني”.
لعل السؤال الكبير حاليا، قبل وبعد الانتخابات، هل الشعب العراقي يفرّق اليوم فعلا بين قائد وآخر، وبين دولة خارجية وأخرى، أم ضاق ذرعا بالجميع ويريد شيئا جديدا تماما. هذا هو الرهان الأكبر. ولعل هذا ما قصده تماما السيد عمّار الحكيم بقوله قبل أيام: إن العراق يحتاج الى ” عقد اجتماعي وسياسي جديد”، وأنه: “ما عاد بوابة يدخلها الآخرون من دون استئذان، ولا أرضا بلا سيادة ولا حكومة بلا هيبة” وذلك قبل أسابيع قليلة من الانتخابات التشريعية في 10 تشرين الأول/ أكتوبر المقبل. لكن حتى إشعار آخر ما زال كثيرون يدخلون البلاد بلا استئذان، والحكومات تبقى نصف مشلولة بسبب محاصصة الأحزاب والتيارات السياسية والدينية.
ما زال السيد عمّار الحكيم في منتصف العمر، وما زالت طموحاته كبيرة لنفسه وللعراق، ولا شك أن الطريقة الممنهجة والدقيقة والمنظمة التي يعتمدها في سياسته وتحالفاته واستراتيجيته وبناء شعبيته، ممتازة لكنها تسيرُ على حد السيف، فالتوسع في التحدّي كثيرا خطير، والتراجع كثيرا أخطر، ذلك أن العراق ما زال تماما كلبنان خاضعا لمخاض إقليمي ودولي غير معروف المآلات.