سامي كليب:
أعتذرُ عزيزي القاريء ،سلفا عن هذا العنوان المذهبي للمقال، فأنا مِن جيلٍ كان وما زال يعتبر أن المذهبيةَ السياسية دمّرت لُبنان، وأن التنوّع الطائفي لبلاد الأرز والذي كان ينبغي أن يكون مصدرَ غنى وجذبٍ سياحي فريد، تحوّل الى مصدر ارتزاق لقادة الطوائف والمذاهب والقبائل عبر التاريخ اللبناني، فأقنعوا شعوبهم بأن المذهبية والتبعية، وليس الانتماء الوطني، وسيلتان وحيدتان لنجاتهم، وما أن بدأت الشعوب تصحو على هول الكارثة والانهيار، حتى رفعَ كلُّ طرف صوته ” يا غيرة الدين”، على اعتبار أنه كلما ماتت الدولة انتعشت العصبيات.
أمّا ما يُبرّر استخدامي لهذا العنوان “المذهبي”، فهو أن كتّابا مرموقين ومفكّرين لهم باعٌ طويلٌ في العمل السياسي، بدأوا منذ فترة يتحدثون عن هذا ” الإحباط السُنّي”. بعضُهم يفعل لتوصيف الحال، وبعضُهم الآخر لتصفيةِ حسابات، وبعضُهم الثالث لتبرير خيبات.
المُلاحظ أن ثمة كتّابا سُنّةً يوجهون سهامَ اللوم الى رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في هذا الإحباط بتهمتي: عدم موجهة حزب الله وإيران، والمسؤولية عن الابتعاد عن السعودية (هذا مثلا ما يكتبه عددٌ من الزملاء في موقع “أساس ميديا” الذي يزداد قُرّاؤه يوما بعد آخر منذ تأسيسه ويملكه الوزير السابق نهاد المشنوق. وهذا أيضا ما يكتبه مفكّرون ضليعون بالفكر السياسي والإسلامي والتاريخ مثل د. رضوان السيّد).
تفترضُ الواقعية السياسيةُ الموضوعية، العودة الى أحداثٍ كُبرى مهّدت الى ظهور فكرة ” الإحباط السُنّي”، لأن بدون قراءة البُعدين الدولي والإقليمي اللذين خبرهما جيدا المشنوق وكتب عنهما مقالات مهمّة سابقا في صحيفة ” السفير” ( وهو يستعد لاستئناف ذلك في أساس)، ستنزلق التحليلات الى زواريب محلية وتدخل في إطار تصفية حسابات عابرة، وأبرزها التالي:
- ليس مع سعد الحريري بدأ مما يُسمى ب ” الإحباط السُنّي” ، ذلك أنه منذ فترة طويلة بدأت في الواقع مسيرةُ القضاء على معظم القيادات العربية السُنّية التي كانت ترفع لواء قتال العدو الإسرائيلي، أو تُقاتله، أو تدعم من يقاتلُه بالموقف أو المال أو حتى المسلّحين. فمن إخراج المنظمات الفلسطينية من لبنان بعد أقل من 4 سنوات على اتفاقية ” كامب دافيد”، مروراً بإعدام صدام حسين وقتل العقيد معمّر القذافي وقبلهما إشغال الجزائر ( التي كان رئيسها هواري بومدين يرفع شعار :نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة) ب ” العشرية السوداء” وصولاً الى سقوط أنظمة عربية في سياق الربيع العربي، وانتهاء بعمليات التطبيع الكُبرى، تغيّرت رياح كثيرة، وكان المقصود على ما يبدو، إخراج السُنّية السياسية، من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، وحصرها ب ” الشيعية السياسية” فيسهل تطويقها. لكن هذا لم يتحقّق تماما فبقي الفلسطينيون في الداخل يواجهون المُحتل بكل ما استطاعوا من إرادة ولحم عاري، وبقيت قلوب معظم الشعوب في العمق العربي نابضة على نبضِ قلب الشعب الفلسطيني، وما استطاع السفراء الإسرائيليون حتى اليوم، ومنذ كامب دافيد، أي في مثل هذه الأيام قبل 41 عاما، أن يتجوّلوا في شارع عربي بحرية، تماما كما أن من ذهب الى التطبيع رسيما بقي يقول نحن فعلنا ذلك لكي ندافع عن قيام دولة فلسطينية بطريقة أخرى وليس للتخلّي عنها.
- حين تم غزو العراق من قِبل أميركا وبريطانيا، بناء على ذريعتين وهميتين (أسلحة الدمار الشامل وتعامل صدّام حسين مع القاعدة)، جرى ببساطة استبدال السنّة في الحكم العراقي، بالشيعة، وتمّ تفكيكُ وملاحقةُ حزبِ البعث وتدميرُ الجيش العراقي ذي الخلفية البعثية والثقل السُّني. يجب الاعتراف بأن هذا الغزو الذي لاقى دعما عربيا، والذي جاء بعد نحو عامين على الهجمات الإرهابية على برجي التجارة العالميين في نيويورك، مهّد عميقا للفتنة السُنيّة-الشيعية، التي كانت قد ارتكزت في بعض جوانبها أيضا على الحرب الإيرانية العراقية التي أنهكت البلدين على مدى ثمانية أعوام. وما زالت شعوبٌ عربية تعتبر أن قتل صدام حسين شكّل احباطا لها بغض النظر عن ممارسته القمعية والدموية والدكتاتورية في الداخل.
- بعد أقل من عامين على هذا التغيير الجذري في قيادة العراق وتركيبته وتوجهاته السياسية برعاية الحاكم الأميركي بول بريمر، اغتيل الرئيس الشهيد رفيق الحريري وهو في أوج رفعِ مستوى الوهج السُنّي في لبنان والمنطقة الى درجات عالية، وكان يُقابِلُه وهجٌّ شيعي آخر، من لُبنان أيضا، مَثّله أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، فصار للرجلين سمعةٌ استثنائية على امتداد الوطن العربي.
ساهم الاغتيال الذي لا شك اجتمعت فيه مصالح متعدّدة، في توسيع رقعة الفتنة المذهبية وأخذها الى مجالات أخرى. وهنا يجب أن نتذكّر أنه بين اجتياح العراق والاغتيال، اتفق الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، والرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك، على ضرب ” الهلال الشيعي”، مع الإشارة الى أن فكرة الهلال ظهرت في أدبيات الأردن ومصر منذ عهدي الملك الراحل حسين والرئيس السابق حسني مُبارك واستمرت لاحقا، وكان إخراج سورية من لبنان أحد جسور ضرب هذا الهلال واسقاط النظام السورية وفق ما شرح الرئيس جاك شيراك في مذكّراته، وما فصّله الكاتب الفرنسي المرموق فنسان نوزي في كتابه” في سرّ الرؤساء”.
كان لاغتيال الحريري وقعُ الصدمة القاتلة، وبداية القلق والضياع السُنيّين وصولا الى الوهن، خصوصا أن السعودية لجأت الى منطق الحكمة والمصالح في عهد الملك عبدالله، وسارعت الى العض على الجرح ومصالحة سعد الحريري مع الرئيس السوري بشّار الأسد لحسابات كثيرة. وبدلا من ضرب الهلال الشيعي، تمدّدت إيران أكثر في المحيط العربي، واشتد ساعد حزب الله، فزاد الإحباط السُنّي عند كثيرين.
- مع هبوب رياح ” الربيع العربي”، شعر السُنّةُ في لبنان وقسمٌ من سُنّة سورية، أن الزمن حانَ لإسقاط نظام، يتهمُه الإخوان المسلمون في سورية بالقضاء عليهم، ويتهمُه تيارُ المستقبل وقسمٌ كبيرٌ من سُنّة لبنان وحلفاؤهم بالوقوف خلف اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، قبل أن تأتي الصدمة من المحكمة الدولية وتزيد الإحباط بتبرئة سورية، وسبقتها وتبعتها صدمة أخرى، عبر انقلاب المشهد في سورية من سعي دولي واقليمي حثيث لإسقاط الأسد، الى مرحلة التكيّف مع بقائه في السُلطة، وعودة السفارات العربية الى دمشق. وهي عودةٌ ضاعفت إحباط قسم لا بأس به من سُنّة لبنان (بينما القسم الآخر مؤيد منذ فترة طويلة).
- القوة العسكرية الوحيدة التي سعت لضرب ” القوة العسكرية” ذات البعد الشيعي أو لمواجهة النفوذ الإيراني، تمثّلت باتجاهين، أولهما التنظيمات التكفيرية (داعش والنصرة وغيرهما)، والثانية قادتها السعودية في اليمن. لكن بعد سنوات، اتفقت معظم دول العالم ( برغبتها أو مكرهة) على إنهاء ” اسطورة” داعش وستقضي حتما على ما بقي من النصرة، وراح الأميركيون ومعهم الغربيون يسلّطون السهام ضد الرياض لإنهاء حرب اليمن، فانتعشت إيران سياسيا وأمنيا ( رغم المآسي الاقتصادية )وزاد الإحباط عند خصومها.
- في غِمار كلّ ما تقدّم، جاءت استقالة الرئيس سعد الحريري، من قلبِ الرياض، لتطرح مليون سؤال وسؤال، وتزرع البلبلة والقلق في صفوف السُنّة في لبنان، خصوصا أن الحريري لم يشرح ولن يستطيع أن يشرح في أي يوم حقيقةَ ما حصل معه، لأن عينه كانت وستبقى على استعادة علاقة تبدو معقّدة مع الرياض التي تقول إنها ساعدت كثيرا ودفعت مليارات الدولارت في لبنان لكن دون جدوى حيث أن كل ذلك لم يمنع حزب الله من ” الهيمنة على الدولة” . لكن مصيبة الحريري أنه بدون استعادة علاقة جيدة مع الرياض سيسير في حقل ألغام، ظهرت ألغام كثيرة منه من داخل بيته وفي محيطه وفي بيئته السُنيّة. لا شك أن هذه العلاقة الغامضة بين الحريري والأمير محمد بن سلمان، أضعفت الحريري وأرخت بثقلها الإحباط على جمهوره الذي يريد أن يعرف أكثر الأسباب الحقيقية للغضب السعودي والذي لا يقتنع بمقولة أن الرياض غاضبة من كل لبنان.
- لعلّ المقارنة الدائمة بين الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وما تخلّل فترته من ظروف مالية وإقليمية ودولية مريحة، وبين الرئيس سعد الحريري، ظالمة للأخير. فإلى جانب أن الخبرة السياسية للإبن، كانت شبه معدومة حين ورث الزعامة وبقيت ضعيفة ومضطربة في مرحلته الأولى، فان كلّ شيء كان يتغيّر على مدى السنوات التي أعقبت الاغتيال-الزلزال، فضاعَ القسم الأكبر من المال الحريري، وظهرت بوادر الشقاق داخل العائلة والمحيط، وانقسم لُبنان بشدة حول سورية، وتفاقمت القدرات العسكرية لحزب الله بعد حرب 2006 والانخراط في حرب سورية وحروب عربية، واشتدت عُرى تحالفات الحزب مع دمشق ( بينما في قسم كبير من عهد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد كانت العلاقة محدودة وشابها الكثير من الضغوط على حزب الله وفق ما نقرأ في كتاب النائب حسن فضل الله عن تلك المرحلة)، ناهيك طبعا عن العلاقات الهائلة التي كان رفيق الحريري قد نسجها إقليميا ودوليا والتي كان من سابع المستحيلات أن يرثها سعد الحريري كما هي.
يقف الحريري اليوم على أطلالِ مرحلة صعبة. يحاول التموضع السياسي مُجدّدا واستعادة زعامة مهدّدة بالضياع. يُدركُ تماما أن الانتخابات المُقبلة ستكون مرحلة مفصلية لكل حياته السياسية وحياة الحريرية بشكل عام. يقفُ على شفيرٍ خطير، فالانتخابات بلا رضى سعودي تعني ارتفاعا للهجة اتهامه بالمسؤولية عن الإحباط من قبل رفاقه القدامى واستمرار القضاء عليه، والانتخابات بالتفاهم أو بالخصام مع حزب الله سيفٌ ذو حدّين، سيحاول اختيار الأنسب بينهما مع خطورة كل منهما، مستندا طبعا الى تحرّك التفاهمات أو توقّفها على المستوى الإقليمية والدولي. فهو يُدرك أن حفاظه على عدد النواب الحالي سيعيده الى الضوء كزعيم سُنّي أول ويعيد فرض نفسه على الساحة الاقليمية ( بما فيها السعودية)، لكن ذلك أمامه مخاطر كثيرة وسيكو مرهونا طبعا بكيفية تحرّك الشارع قبل الانتخابات.
الواقع أنه بدون العودة الى كل ذلك التاريخ أعلاه، لا يُمكن فهمُ انتشار فكرة ” الإحباط السُنّي في لبنان”، واذا كان للرئيس سعد الحريري أخطاء كثيرة في الداخل والخارج تماما كأخطاء الكثير من قادة الطوائف، وأنه لم ينجح في إنتاج مشروع اقتصادي سياسي جاذب، ولم يشأ مواجهة عسكرية خطيرة مع حزب الله، فهو حتماً ليس المسؤول عن ” خطيئة الإحباط السُنّي ” التي ستستمر طويلا ما لم يقم مشروع وطنيّ حقيقي في لبنان يقفز فوق المذاهب والطوائف ويعيد انتاج وطن يكون عمقه عربياً على أساس مشروع نهضوي تنموي فكري ثقافي اقتصادي عربي، يُعيد الأمل الى كل العرب سُنّة وشيعة ومسيحيين وغيرهم ويوازن العلاقات الدولية ويحمي الوطن ويُكمل مسار الدفاع عن القضية الأم.
القائد الذي سينجح في ذلك ويمهّد لبناء وطن، هو من سيتبعه اللبنانيون بغض النظر عن مذهبة وطائفته وعرقه ولونه، ذلك أن معظم اللبنانيين بات مُحبطا من كل الجماعة السياسية وليس فقط السُنّة، والفرق بين لُبناني وآخر، هو أن الأول يُكابر والثاني يجاهر.