سامي كليب
ما عاد اللبناني يعرف هل يعود الى منزله لو غادره أو يُصبح في مقبرة أو مستشفى. التوتر العام بات سمة المجتمع، فالدولة التي ما كانت يوما دولة تلفظ اليوم ما بقي لها من أنفاس، وَمن نهبها ودمّرها يتفرّج على الشعب خائفاً منه، أو حالما بإعادة ترويضه، بعدما أخرج ثرواته من البلاد، والشعب ينهب الشعب في لعبة الاحتكارات الجشعة واللاأخلاقية، والمجتمع الدولي ينتظر انهيار آخر الحصون ليدخل في لعبة بازار إعادة التركيب على أسس جديدة، مداويا سرطان الكارثة بحبوب المساعدات الإنسانية. فكيف لا يموت الفقراء في عكار المهملة الجريحة؟
تحوّل لبنان الى مقبرة كبيرة، يموت فيه الناس مجّانا من الجوع أو القهر أو الغضب، وما كارثةُ عكّار قبل ساعات، الا صدى لكارثة المرفأ ولكل الكوارث اليومية الأخرى، ذلك أن انهيار الدولة في الحالتين كما في كل الحالات الأخرى، سمح لكل وسائل القتل الداخلية والخارجية بأن تسرح وتمرح فوق جثث الناس والوطن.
تحوّل الوطن أيضا الى سجن كبير، فعظم شبابه يحلمون بالهجرة دون رجعة، والأطباء والممرضون والعقول والحرفيون والتقنيون وكل من استطاع هرب أو يهرب، بينما معظم الباقين يفتقرون الى أدنى مقومات العيش الاّ بما سمح به السجّان في لعبة الهندسات المالية المشبوهة والخزعبلات التشريعية وجرائم التلاعب بسعر الليرة وأسعار الغذاء والوقود والدواء وغيرها.
هو الفساد المقرون بالطائفية والمحاصصة، اقترن مع غباء سياسي يعتقدونه ذكاءً، فأوصل الوطن الى ما وصل اليه. وهي لعبةُ المحاور نهشت لحم البشر والشجر والحجر، وكلُ طرفٍ يُريدها جسرا لتصفية حسابات داخلية وخارجية، واعدا الناس بأنهار اللبن والعسل، ورافعا شعارات البطولة، بينما الدمار يزداد ورائحة الموت تتسلل الى كل شارع وحارة.
بات واضحاً أن الجميع يُدرك أن النظام السابق انتهى الى غير رجعة، والجميع يُريد أن يبني النظام المُقبل كما يشتهي، بعضهم باسم التحولات الديمغرافية، وبعضهم الآخر باسم توازنات المحاور، فاكتمل الطوق عليهم جميعا وعلى الوطن، فكيف لا يموت الشعبُ كلُّ يوم أكثر من الذي سبق.
الشعبُ يقطع الطريق على الشعب، فتتوقف بسطات خضار الفقراء، والمحال التجارية الفقيرة وسيارات الأجرة وفانات المعدومين، والجيش والقوى الأمنية ملزمون بصد الشعب وهم مثله فقراء ومقهورون وغاضبون، بينما الذي أوصل الطرفين الى هذه الحال، ما زال، ورغم خوفه الضمني من تمرّد الجوعى، يُمارس لعبته البليدة بالمحاصصة المذهبية لتركيب حكومات مسخة لا تُشبه أي حكومة أخرى في العالم، ويفكّر في كيفية إعادة مناصريه الى الحظيرة.
السؤال الوحيد المطروح حاليا: هل سيقبل الشعب والجيش وقوى الأمن طويلا أن يموتوا في السجن، أم يحطّمون قضبانه، ويخرجون الى النور، رافعين شعارا واحدا فقط : بناء دولة لم تُبنَ قط في تاريخ هذا الوطن بعيدا عن الطائفية والمذهبية والفساد، فتكون ولادة لبنان الذي نريد لا لبنان الذي أراده كل الآخرين ضد لبنان؟.