سامي كليب:
بعد أيام تستولي حركةُ طالبان الأفغانية على العاصمة كابول، فمسلّحوها ما عادوا يبعدون عنها سوى أقل من 50 كيلومترا بعد أن استولوا على معظم المدن والمقاطعات الكبرى في البلاد. وفيما تتسارع وتيرة هروب الأميركيين والدول الأطلسية آخذين معهم من يحالفه حظ الرحيل من العملاء الأفغان، لم تجد واشنطن أفضل من لوم ما بقي من الجيش الرسمي الأفغاني على عدم القتال والصمود والتصدي.
يُمكن أن يتخيّل المرء اليوم، جنرالا سوفياتيا سابقا يضحك في منزله الريفي وهو يشاهد الأميركيين يرحلون عن بلاد وعدوها بأنهار اللبن والعسل والحريات والديمقراطية حين تحالفوا مع حركة طالبان لطرد القوات السوفياتية فتركوها مدمّرة وزاخرة بالإرهاب ومستسلمة لمن أراد الاميركيون محاربتهم، ويُمكن للمرء أيضا أن يتخيّل الصين وروسيا يُشاهدان أكبر هزيمة مُعلنة للرئيس جو بايدن، وهو في أوج صراعه الاستراتيجي معهما حيث تنشط الدبلوماسية الروسية حاليا للتعامل مع ما بعد الانسحاب الأميركي ، ويُمكن لإيران وحلفائها، ورغم القلق من الجار الطالباني، أن يزدادوا قناعة بأن الانسحاب الأميركي الذي بدأ في أفغانستان سيصبح حتميا في العراق وسورية.
كيف لا نتذكر الرئيس الباكستاني السابق برويز مشرّف يخاطب الأميركيين في العام 2012 من منفاه في دبي قائلا :” إنكم تتركون وضعا أسوا من ذاك الذي وجدتموه عام 2001 ففي تلك الفترة، وبعد عام واحد على قتل إسامة بن لادن في غارة أميركة عام 2011، قال نائب الرئيس الأميركي آنذاك جو بايدن ورئيسه باراك أوباما إن الوقت حان لجعل أفغانستان واحة الديمقراطية والحريات وقيام الدولة وإعادة الجيش الأميركي الى بلاده بعد أن تقوم جنّات النعيم على الأراضي الأفغانية.
أما الحقائق فكانت غير ذلك تماما، فالنعيم الموعود، تحوّل الى جحيم حقيق، وصدقت نبؤة برويز مشرّف. فبعد 20 عاما من الحرب، انهزمت أميركا وحلف الأطلسي كما انهزم قبلهما السوفيات، وازدادت طالبان قوة واحترافا قتاليا، وتفاقم الإرهاب، وتضاعف خطر تصدير ثورة إسلامية متشددة جديدة باتجاه دول عديدة. أما الحصيلة الأميركية فهي أيضا مأساوية: فوفق مركز Defense Casualty Analysis System وصلت الخسائر العسكرية الأميركية الى 2443 قتيلا بينهم 1845 في المعارك، إضافة الى 3800 قتيل من المتعاقدين مع الجيش الأميركي من أميركيين وغيرهم، ونحو 21 ألف جريح، وهو الرقم القريب من الاحصائيات الأخرى والذي يتحدث عما بين 5 و6 الآف قتيل من الجانب الأميركي والمتعاقدين، أما في الجانب الافغاني فقد كانت الخسائر كوارثية خصوصا بين المدنيين، فوفق بعثة الأمم المتحدة في كابول قُتل وجُرح أكثر من 100 ألف أفغاني مدني فقط في خلال السنوات العشر الأخيرة، وتجمع مصادر كثيرة أخرى على ان عدد قتلى المدنيين فاق 40 ألفا منذ الغزو الأميركي.
لا شك أن مستقبل أفغانستان سيكون قاسيا ودمويا وغامضا، مهما قيل عن اتفاقات سريّة وضمنية مع الولايات المتحدة الأميركية عبر قطر وغيرها. فما حصل في تلك البلاد التي تمتد على نحو 660 ألف كيلومتر وبعدد سكان يفوق 38 مليون نسمة، يحمل رسائل كثيرة أبرزها التالي:
- إن كل دولة أجنبية تغزو أي دولة أخرى غالبا ما تتركها خرابا ودمارا بعد أن تحقق أو لا تحقق فيها أهدافها
- إن الانسحاب الأميركي ومهما جرى تزيينه وتبريره، هو هزيمة فعلية لصورة أميركا ودورها، بعد أكثر من 33 عاما على هزيمة السوفيات التي كانت في الواقع أقل وطأة مما نراه اليوم. وإن اهتزاز صورة أميركا له آثاره الكبرى على حلفائها في المنطقة وعلى صراعها مع الصين وروسيا.
- إن انتصار طالبان وسيطرتها على أفغانستان سيشغلان المحيط الجغرافي وكذلك العالم لسنوات طويلة. صحيح أن هذه الحركة الإسلامية المتشددة والتي تُبدي بعض المرونة في التفاوض، ستحتاج الى علاقات إقليمية ودولية كي تعيد بناء الدولة التي تسيطر عليها وقد تعدّل في استراتيجيتها العسكرية الدموية، لكن الصحيح أكثر أنها بعد أن تفرض كامل سيطرتها على البلاد في أعقاب خروج كل القوى الدولية المتحالفة مع الحكومة الشرعية، ستفرض شروطا كثيرة على أي دولة تريد التحالف معها، ذلك أن لديها القدرات العسكرية الهائلة والقدرة على التأثير أيضا على مجموعات مسلّحة خارج البلاد. فهذه المجموعات ستجد في أفغانستان مرة ثانية ساحة رحبة للعمل بحرية كبرى.
- لا شك أن الدول التي استضافت طالبان أو تقاربت معها في أوج صراعها مع القوى الأطلسية، ستضاعف دورها في المستقبل وتفيد من سيطرة طالبان لكي تلعب هذه الورقة في صراعات الإقليمية والدولية، فإلى قطر، هناك تركيا التي أعلن رئيسها رجب طيب أردوغان أنه سيكون على استعداد لاستقبال رئيس طالبان، وذلك فيما أعلنت الحركة أنها تريد إقامة علاقات جيدة مع أنقرة. أما إيران التي سارعت الى طلب تأمين بعثتها في هرات بعد سيطرة طالبان، فهي أعلنت أن طالبان هي جزء من النسيج الافغاني ويجب التعامل معه على هذا الأساس. لكن حتى الآن يبدو أن القلق الإيراني سيكون أكثر من الاطمئنان الى الجار الافغاني الجديد رغم كل اللقاءات التي جرت في الفترة الأخيرة بين الجانبين وبينها زيارات لطالبان الى طهران. ولا شك أن ثمة من يريد دفع طالبان للمساهمة في تطويق إيران بقدر ما هناك مساع إيرانية لجعل هذه الورقة تصب في صالحها، لكن لا أحد يعرف حتى الآن كيف.
لعل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أفضل من أعطى صورة عن صعوبة ومخاطر المرحلة المقبلة بقوله “في ظل سحب الولايات المتحدة وحلف الناتو قواتهما على نحو مستعجل، تزايد الغموض حول التطورات المستقبلية للأوضاع السياسية والعسكرية في أفغانستان وحولها، وإن تصعيد النزاع الأفغاني يزيد من خطورة التهديد الإرهابي وتهريب المخدرات الذي بلغ مستوى غير مسبوق، مضيفا: “من الواضح أنه في الظروف الحالية توجد مخاطر حقيقية لامتداد عدم الاستقرار إلى الدول المجاورة، ويشكل خطر هذا السيناريو عائقا ملموسا في سبيل إدماج أفغانستان في التعاون الإقليمي”.
وأعرب الوزير الروسي عن قناعة موسكو بضرورة أن ” يظل إحلال سلام مستدام في أفغانستان على رأس أولويات المساعي الجماعية في المنطقة ” وشدد على أهمية الدور الذي يمكن ان تلعبه روسيا والصين وباكستان وأميركا ودول أخرى لتعزيز الحوار الافغاني الافغاني” .
لا شك أن الوضع غامض جدا، وعلى العالم انتظار ما هي قرارات طالبان بعد سيطرتها قريبا على كابول. هل تريد تعاونا دوليا وفتح صفحة جديدة، ام ستعتبر نفسها انتصرت بالقوى وعلى الآخرين تنفيذ شروطها؟ أما دروس التاريخ، فتقول إن الدولة التي ساهمت أميركا بهزيمتها وسحب قواتها من أفغانستان أي الاتحاد السوفياتي، هي نفسها التي ستقود في المرحلة المقبلة على الأرجح الجهود الدولية والإقليمية لرسم معالم المرحلة المقبلة في المنطقة بعد الهزيمة الأطلسية الكبرى على الأراضي الأفغانية.
لكن ثمة سؤالا آخر لا يطرحه كثيرون، وورد عند بعض المصادر الخبيرة بالتفاوض بين أميركا وطالبان، وهو التالي : هل ثمة اتفاقيات سريّة جرت بين طالبان وواشنطن قد تظهر قريبا، أم أن في الأمر هزيمة نكراء لواشنطن؟ لننتظر ونر