ثقافة ومنوعاتمقال اليوم

واكذوب عليي!

عقيل سعيد محفوض

الكذاب هو “رجل الفعل” بامتياز، إذ بين الكذب والفعل والفعل السياسي “مجانسة جوهرية”، على ما يقول المفكر الفرنسي جاك دريدا، ذلك أن الجذر المشترك لـ “القدرة على الكذب” و”القدرة على الفعل” هو القدرة على التخيل وإنتاج الصورة. ويضيف دريدا: أن الكذب هو “مرادف للمستقبل”. (ج. دريدا، تاريخ الكذب، ص 106).

هذا المقال، يحاول قراءة ظاهرة الكذب، من منظور أولي الكذب أنفسهم، ليس بألسنتهم وعقولهم، إنما بعقول وألسنة اثنين أو ثلاثة من مفكري السياسة في العالم، ولا شك أن سياسيينا يبزونهم من حيث الفعل! وليس في هذا المقال ما يبرر الكذب، بأي حال من الأحوال. سواء سعد الكذابون به أم لم يسعدوا.

وهكذا، فإن للكذب أوجه كثيرة، فيما للصدق وجه واحد، أما لماذا هو (أي الكذب) كذلك، فهذا يفتح الباب على تقديرات كثيرة، إذ ان الأمور متعلقة بمعنى الكذب، ودوافعه، ومتى يكون القول كاذباً، وهل يتعلق الأمر بأذية أو ضرر يقع على الآخر أو حتى على الأنا، أم أن الكذب كذب لمجرد أن يكون القول غير صحيح أو ربما لمجرد السكوت عن قول الصدق؟

يعود دريدا إلى تمييز أوغسطين بين الاعتقاد والاقتناع، فإذا اعتقدنا أن ما نقوله صحيح وكنا نؤمن به، فلا يمكن أن نكون كاذبين حتى لو كان ما نقوله خطأ، (ص 17). ويقترح جان جاك روسو في أحد نصوصه، تصنيفاً مختلفاً لأنواع الكذب، هناك: الخديعة والتدليس والافتراء، ويَعدُّ روسو أن الكذب البريء ليس “كذباً”، وإنما “تخيلات”! ومثل ذلك أن نخفي ما لسنا ملزمين بالتصريح به. وهذا قريب من المجاملة مثلاً، أو الادعاء.

عندما طالب الناسُ فواعل السياسة والحكم في بلد مشرقي جميل، بأن يكونوا واضحين، فقد استجابوا، وفعلوا شيئا من ذلك، ولكن من دون هدىً وبقدر كبير أو صغير من الاضطراب والفوضى والسلبية وحتي السوداوية، الأمر الذي أدى إلى نتائج عكسية بالفعل، وقد بدا صدقهم كذباً!

هذا ما يحدث عندما يأتي الصدق –إن أتى- متأخراً عن وقته أو في سياق غير مناسب أو ليغطي الإخفاق والفشل وربما الفساد في السياسات الرسمية والحكومية وغيرها. وأحياناً ما يكون الكذب إذا استُخدم في سياقه وأوانه “أكثر صدقاً” –بالمعنى السياسي والاجتماعي والتاريخي- من الصدق نفسه!

ان المتلقي في بلداننا وعوالمنا غير معتاد على سياسات حكومية صريحة وصادقة. وعندما حاول بعض فواعل السياسة وبيروقراطية الدولة أن يكونوا صريحين، فقد أكثروا من الإشارات الصريحة لكن غير الصادقة!

وقد يكون بعض السياسات الحكومية صادقاً بالفعل، إلا أن فواعلها لم يحسنوا إيصال ذلك إلى المتلقي، ثم أنهم أخطأوا التراسل، وقد ألقوا التبعات كلها على الخصوم أو الخارج، وأكثروا من الحديث عن الصعوبات بشكل مفاجئ وغير معتاد، وخالط حديثهم عن الصعوبات والتحديات أكاذيب أو أخطاء في تقدير الموقف، والأهم هو أنهم لم يفعلوا شيئاً تقريباً حيال الفساد وضعف الأداء في إدارة الشأن العام.

هنا استذكر عبارة كنت قدمتُ بها لمقال سابق لي، يقول أرسطو: “لقد عَلَّمَنا هوميروس، أكثر من أي شخص آخر، أن نَروي الأكاذيبَ بالطريقة الصحيحة”، ويضيف: “إنَّ القصصَ المستحيلةَ التي يُمكن تَصوُّرها، تَفْضُل على القصصَ المُمكنة غير المُقنعة”.

لكن مهلاً،

هل ان الكذب، المتدفق بلا حدود على الأفراد والمجتمعات في بلداننا وعوالمنا، هو فساد محض أو شر محض أو خطيئة محض في عالم السياسة؟

يقول دريدا، وهذا مما يثلج صدور فواعل السياسة، الكذابين: ان الكذب يتخذ “طابعاً إنجازياً”، ذلك أنه “يتضمن في الوقت نفسه وعداً بقول الحقيقة وخيانة لذلك الوعد”. (ص31). وينقل دريدا عن حنة أرندت قولها ان اللجوء إلى الكذب هو إحدى الوسائل الضرورية والمشروعة لممارسة السياسة والحكم.

يضيف دريدا، وهذا مما يساعد فواعل السياسة أيضاً:

“من المؤكد أن مفهوم الكذب له خصوصيه قارة، ومن ثم يجب العمل على تمييزه عن الخطأ والجهل، والأحكام المسبقة، والاستدلال المغلوط، بل وحتى عن النواقص التي قد تعتري المعرفة”. وحتى تمييزه عن الهفوات الناتجة عن العمل أو الفعل أو عن التقنيات المعتمدة.

لكن، الانتصار الحقيقي لفواعل السياسة في مجتمعاتنا وبلداننا، هو ما تقوله فيلسوفة السياسة حنة ارندت، من أن الحقيقة هي “مجرد فكرة يجب الاستناد إليها”. ممممم، وما اكثر الأفكار التي يستند إليها أولئك.

اختم بالإشارة إلى أغنية عربية معروفة، تكاد تمثل أيقونة العمل السياسي وغير السياسي في مجتمعاتنا وبلداننا، تقول الأغنية: “تعا ولا تجي، واكذوب عليي!”.

———————————————–

الكاتب: د.عقيل سعيد محفوض

باحث وأستاذ جامعي، وكاتب متخصص بشؤون تركيا والشرق الأوسط

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button