رولان دوما: كنت وسيطا بين إسرائيل وسوريا، وهكذا قرّرت CIA قتل القذّافي
سامي كليب
كتاب جريء بشكل عام ومنصف للعرب على وجه الخصوص، نشره وزير الخارجية الفرنسية العريق رولان دوما في العام 2011 بعنوان : Coups et blessures (لكمات وجروح) أراد من خلاله أن يكون وثيقة صادقة لتاريخ غالبا ما يتم تزويره. وفيه يروي أسرارا كثيرة عاصرها أو شارك فيها منذ دفاعه عن مناضلي جبهة التحرير الجزائرية في ستينيات القرن الماضي حتى عمله السري والعلني إلى جانب الرئيس الراحل فرانسوا ميتران. ونحن إذ نعود الى هذا الكتاب اليوم فلكي نفهمَ بعضاً من كيفية التفكير الغربي بالعرب وأسباب كوارثنا.
بين إسرائيل وسورية
“الإسرائيليون يفعلون ما يشاؤون في فرنسا، ويحرِّكون الاستخبارات الفرنسية (DST ) كيفما يحلو لهم”، بهذه الصراحة تحدّث رولان دوما عن إسرائيل منذ العام 2011، حيث لم يكن أي مسؤول آخر يجروء على ذلك، وأشار الى تأثيرها على ساحة بلاده، وذلك في سياق روايته عن بداية العلاقة الطويلة التي جمعته أولا بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، ومن ثم بالرئيس الحالي بشار الأسد .
يقول دوما إن “الإسرائيليين يخطئون في عدم التفاوض مع بشار الأسد، حتى لو أنه يرفض التوقيع على اتفاق بأي ثمن. وأنا أقمت علاقات مميزة معه كتلك التي أقمتها مع والده. وبشار يمتلك فكرا أكثر انفتاحا من والده… ذهنه متقد ولا يرفض المسائل المحرجة”.
يعود رولان دوما إلى بداية علاقته مع حافظ الأسد. يروي كيف ساهمت السيدة ناهد العجة (ابنة وزير الدفاع السوري السابق مصطفى طلاس) في تعبيد الطريق بين فرنسا وسوريا. ونفهم ان دوما ذهب في المرة الأولى إلى دمشق وكان الأسد مريضا ويكتفي بأكل الألبان. بقي عنده أسبوعا كاملا. وهو يكشف أن الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز هو الذي نصحه بتلك الزيارة حين كان الرجلان وزيري خارجيتي دولتيهما. حصل ذلك في العام 1992. كان بيريز يدرك أن الأميركيين يبحثون عن وسيلة للتفاهم مع دمشق، فارتأى أن تجني فرنسا أيضا مصلحة في ذلك من خلال اندماجها في مسيرة السلام في الشرق الأوسط. وافق الأسد على الفكرة لكنه تمنى أن يكون اللقاء ثنائيا فقط بوجود مترجم واحد ومن دون حضور وزير خارجيته.
تم اللقاء واستمر سبع ساعات متواصلة. استهله الأسد بسؤال ضيفه الفرنسي:”مَن طلب مِنك المجيء؟”. شرح له دوما اقتراح بيريز. سأله الأسد ثانية: “هل حصل بيريز على موافقة رئيس الوزراء اسحق رابين؟”. قال دوما انه لم يلتقه، فتابع الأسد: “سيكون مفيدا أن تراه”. كان الرئيس السوري الراحل قليل الثقة ببيريز ويعرف دهاليز العلاقات الإسرائيلية الداخلية ويدرك أن وزير الخارجية الاسرائيلي ربما يتخذ مبادرات لوحده وأنها بالتالي لا تؤدي إلى شيء فعلي.
يروي دوما ان الحديث الأول مع الأسد غرق مطولا بالشأن اللبناني. يقول: “شرح لي الاسد لمدة ساعتين نظريته القائلة بأن لبنان هو أرض سورية وان المشاكل جاءت من البريطانيين والفرنسيين الذين رسموا تقسيما مجحفا (سايكس – بيكو)، لكنني شعرت بان الأسد يريد اثارتي ولن يذهب الى حد اعادة التشكيك بالحدود الموروثة من عهد الاستعمار”.
في الواقع، دوما ليس وحده من سمع هذه النظرية من حافظ الاسد. فقد سبقه الى سماعها وزير الخارجية الفرنسي السابق كلود شيسون. قال الاسد آنذاك لضيفه الفرنسي: “فرنسا اقتطعت من سوريا أربعة اقضية منحتها للبنان وكل ما افعله حاليا هو استعادتها” (الحوار الذي أجريته مع شيسون موجود في ارشيف صحيفة “السفير”). كان الاسد يمارس ضغوطا كبيرة على الفرنسيين بشأن لبنان كي لا يعيقوا حركته فيه او يحوِّلوه الى مقر لاعدائه.
ينتقد دوما وزير الخارجية الفرنسي السابق برنار كوشنير لتعمده الذهاب الى بروكسل خلال زيارة الرئيس بشار الاسد فرنسا، معتبرا ان مثل هذه التصرفات الدبلوماسية غير لائقة ولا تفيد.
لا قنابل نووية في ايران
كلام رولان دوما عن ايران له أهميته الخاصة في كتابه. فالدبلوماسي الذي زار طهران مرارا وصادق فيها وزير الخارجية السابق علي أكبر ولايتي وتقارب مع الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني يقول جازما: “ان القنبلة الذرية الايرانية هي بنظري كأسلحة الدمار الشامل عند صدام حسين. أي انني لا اؤمن بكل ذلك. وكل ما حصل هو تضليل. وان التخبط في السياسية الفرنسية… مرده تدخلات معروفة الاسس…”، مشيرا الى ان وجود اسرائيل على الأبواب يجعل كل تحليل مغاير عرضة للشبهات.
يحاول دوما الدفاع عن وجهة النظر الايرانية بشأن الحاجة الى مفاعلات نووية للطاقة حيث ان مخزونها النفطي قد لا يستمر اكثر من 60 عاما، ويؤكد أن “ما هو حقيقي يشير الى ان الايرانيين يريدون مواصلة برنامجهم النووي المدني، وان كل التقارير تدل على عدم وجود اي اسلحة نووية”.( قال ذلك في العام 2011، وخصوم ايران يقولون ان الأمور تغيرت الآن رغم ان الوكالة لم تعثر بعد على ما يؤكد وجود أثر لانتاج قنبلة نووية، وان ايران تقول ان القنبلة هي ضد عقيدتها الدينية).
ويعود الوزير العريق الى قصة الرهائن الفرنسيين في لبنان في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ليؤكد ان التأخير في الافراج عنهم انما كان بسبب دخول جاك شيراك وفريقه على خط التفاوض بين ميتران والايرانيين، ذلك ان الرئيس الديغولي كان في اوج حملته الانتخابية، وقدم للايرانيين عروضا اكثر اغراء بغية ان يكون الافراج على يده حتى وإن تأخر ذلك ما دامت فيه خدمة لمستقبله السياسي (كثر من الكتاب الفرنسيين ذكروا هذه الرواية سابقا).
محاولة قتل القذافي
وكما في الشأن الايراني كذلك بالنسبة لليبيا، يروي رولان دوما بعضا من لقاءاته مع رجال وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية “سي آي أي” حين زاروه في مكتبه في باريس في محاولة لاقناعه بأن لدى العقيد معمر القذافي مختبرات لتخصيب اليورانيوم وتصنيع اسلحة كيميائية. يقول: “لقد استمعت اليهم بتهذيب فائق لكني لم اصدق كلمة مما قالوه”.
يؤكد في هذا السياق ان الأميركيين قرروا فعلا قتل القذافي عبر قصفه بالطائرات في العام 1986، وان فرنسا رفضت السماح لهم باستخدام مجالها الجوي لذلك، وقد شكر القذافي طويلا فرنسا على هذا الامر لان تأخير وصول القاذفات الاميركية لاكثر من 15 ساعة بسبب الرفض الفرنسي، مكَّنه من مغادرة المكان الذي قصف. ويروي دوما جلساته الطويلة مع العقيد الذي ارتبط به بصداقة عميقة، حتى ولو انه في بعض المرات كان يذهب اليه حاملا تهديدا بقصف القوات الليبية بسبب تدخلها في تشاد. اللافت هنا هو سعي ميتران للدفاع عن المنطقة المسيحية من تشاد من دون الاخذ في الاعتبار المناطق المسلمة. واللافت ايضا ان ميتران كان يؤخر كثيرا استقبال القذافي برغم الحاح الاخير بطلب اللقاء.
عرفات واللوبي اليهودي
ليس افضل من دوما لرواية قصة زيارة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات فرنسا في العام 1989. هو نفسه كان مهندس العلاقات مع الزعيم الفلسطيني. وهو نفسه الذي نصح عرفات بكلمة “CADUQUE” (لاغ) للتأكيد ان شرعة منظمة التحرير التي تقول بتدمير دولة اسرائيل باتت لاغية.
يبدو وفق هذه الرواية ان ميتران لم يرفض فكرة مجيء عرفات، لكنه كان يخشى غضبة اللوبي اليهودي. يقول دوما: “كان اللوبي اليهودي، كما يسميه ميتران نفسه، يعمل بكد. كانت الضغوط كبيرة جدا حين اعلنت أنني سأقابل عرفات خلال زيارته البرلمان الاوروبي في ايلول العام 1988. حصلت من الرئيس ميتران بعد محادثات صعبة على اذن باستقباله. وبعدما كرر ميتران التحذيرات، قال لي: حسنا لكن تحمَّل المسؤولية… ربما كان يقصد بذلك استقالتي لو ساءت الامور…”.
يوضح دوما ان ” ميتران كان قريبا من الاسرائيليين حتى ولو انه لم يكن يجاهر بذلك”، ويروي الوزير الفرنسي كيف تعرّض شخصيا لغضب اللوبي اليهودي برغم ان عائلة دوما كانت قد ساعدت كثيرا اليهود خلال الحرب النازية عليهم في اوروبا، وانه هو نفسه اسمى ابنه دافيد. لكن ذلك لم يمنع المتطرفين من اقتلاع شجرة مقدسية عريقة من حديقة والده لانه استقبل عرفات، وصار عرضة لانتقادات سياسيين وكتاب يهود وفرنسيين قريبين من اسرائيل.
يقول “انني لا اوافق على السياسة الاسرائيلية، وأنا كنت وفيا بذلك لمبدأ التوازن الذي أسس له الجنرال شارل ديغول في الشرق الاوسط. يحق للشعوب العربية ايضا الاحترام. وان السياسة الاسرائيلية الحالية المستوحاة من الناشطين المقربين من الصهاينة لا تسير في الطريق الصحيح”.
الوزير المخضرم الذي لا يزال حتى اليوم يدافع عن حق الجزائريين في محاسبة فرنسا عن تاريخها الاستعماري الدموي عندهم واعادة الارشيف لهم، توقّع منذ سنوات ثورات في الجزائر والمغرب ودول اخرى، ويكشف كيف ان الملك المغربي الراحل الحسن الثاني اكد له موافقته على ان تصبح القدس عاصمة لاسرائيل بشرط ان تمنح الفلسطينيين حقهم في الاماكن المقدسة، محذرا من ان الصراع قد ينتقل يوما ما من صراع بين الفلسطينيين والاسرائيليين الى صراع بين الاسلام واسرائيل.
وفي توصيفه للثورات العربية الراهنة يقول دوما إن “ثورات تونس ومصر وليبيا، حتى لو انها لم تكتمل بعد، هي احد اكثر الاحداث أهمية التي عاصرتها منذ انتهاء الاستعمار وسقوط جدار برلين. اننا في بداية تحول عميق يطال حتى الدول الاكثر انغلاقا كاليمن. وانني موافق على القول ان الامر يتعلق بانتفاضة جيل الانترنت ضد البؤس والفساد وليس بحلم اصولي”.
فرنسا وخطأ الأطلسي
ينتقد رولان دوما بشدة قرار الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ادخال فرنسا في القيادة الموحدة لحلف شمال الاطلسي. يقول إن “ساركوزي ارتكب خطأ كبيرا بالنسبة للموقع التقليدي لبلادنا الذي رسمه ديغول”، مشيرا الى ان اوروبا ستكون عالقة في المستقبل بين قاعدتين اميركيتين اطلسيتين كبيرتين، اولاهما في بريطانيا التي يعتبرها القاعدة المتقدمة للحلف ولاميركا، والثانية في تركيا، معتبرا ان الخوف من الاتراك لا يكمن في اسلامهم وانما في انهم سيتحولون الى قاعدة عسكرية اطلسية فتحكم اميركا الطوق على اوروبا.
حسنا فعل الوزير الفرنسي في ثمانينيات العمر، فكتابه سيبقى بصمة صدق في تاريخ دولي يريد ان يرمي كل المسؤولية على الفلسطينيين والعرب. أما اللافت، فهو ان العرب لم يترجموا هذا الكتاب في حينه رغم أهمية مضمونه المُنصف لهم، وأما غير المستغرب فهو أنهم غافلون عن كل ما يخدمهم، وغارقون بكل ما يمزّقهم ويفتح أبوابهم لكل غازٍ وطامع.